عبدالله السويجي

إدامة أمد الاقتتال في سوريا كشف أهداف المتقاتلين والأطراف المتقاتلة، كما أوضح بجلاء أكثر توجهات الحلفاء، والصراع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وأماط اللثام عن الحرب الباردة المشتعلة بين القوى الكبرى التي كانت إلى زمن قريب ترتدي أكثر من لثام، فإذا بها بعد أربع سنوات من القتال في سوريا، وبعد الأزمة الخطرة في أوكرانيا، تظهر إلى السطح بشكل علني . فالمتحاربون على الأرض في سوريا، بمن فيهم النظام السوري، ليسوا سوى أدوات لصراع قوى إقليمية وعالمية، لديها خطط استراتيجية، وأهداف اقتصادية وسياسية بعضها تم الإعلان عنه، وبعضها يتم تداوله في الخفاء من خلال التكتلات الاقتصادية العملاقة، ولقاءات كبار السياسيين في العالم .


ومع استمرار الحرب في سوريا، التي بات من المنطق تسميتها بquot;العالميةquot;، نظراً لمساهمة أطراف إقليمية ودولية كبرى في الاصطفاف إلى هذا المعسكر أو ذاك، ومع فشل مؤتمر quot;جنيف2quot;، بات بالإمكان التحدث عن أزمة تفوق إمكانات النظام السوري وأطياف المعارضة، وهم سوريون وعرب وغير عرب، ليصبح التحدث عن مشروع يعيد تقسيم المنطقة، ليس بالمعنى المتداول، كدويلات أو أقاليم، ولكن بمعنى الإيديولوجيات والاستراتيجيات والعقائد، فالمتحاربون من دون استثناء، نظاماً ومعارضة، ينتمون إلى إيديولوجيات معروفة وواضحة، تختلط فيها ، الآن، الاستراتيجيات والمصالح، ولكن، فيما بعد، ستظهر أكثر وضوحاً، خاصة أن وراء بعض المتحاربين منظمات عالمية ودول كبرى، تمد الأطراف بالسلاح والمال والدعم اللوجستي، لتحقيق أهداف (دنيوية وعقائدية)، وقد تتغلب الأولى على الثانية في مرحلة تحالفات معينة، وقد تتصالح معها لتمرير بعض الخطط .


القضية ليست لغزاً وإنما هي أقرب إلى التعقيد الذي لا يراه متتبع الأخبار العادي، أو المنحاز بحماسة وعاطفية إلى طرف من دون الآخر، لأن المشكلة لم تعد، كما بدأت، بين نظام مستبد وشعب مظلوم، فهذا الطرح تجاوزته أدبيات التحليلات الإعلامية، ولم يعد منطقياً الأخذ به بعد الممارسات الإجرامية المرتكبة من قبل الأطراف المتحاربة، الذين ينظرون إلى الضحايا المدنيين كذباب أو طوابير نمل، حيث لم تعد صور الأطفال القتلى وطوابير النازحين تثير أحداً، بل بات التفكير الآن يدور حول كيفية توفير السكن المناسب والحياة الكريمة لهؤلاء النازحين في أماكن غربتهم . ومن يدقق بمخيم الزعتري على الحدود الأردنية السورية، سيرى أنه مخيم طويل الأمد والمدى، ويتعامل المقيمون فيه على أنهم باقون حتى إشعار آخر، فنجد المحال التجارية، وصحون الساتلايت فوق الخيم وquot;الكرفاناتquot;، ويعيش الناس حياة عادية فيتزوجون وينجبون ويسافرون ويعودون . وهذا التداعي في الوصف يشير إلى صلة مباشرة بديمومة الأزمة إلى سنوات مقبلة، طالما أن الإنسان بمعناه الأخلاقي والقيمي قد خرج من اللعبة، لتحل محله لعبة المصالح الكبرى .


ويبدو أن إدامة أمد الحرب دون إعلان الانتصار قاد البعض إلى اعتبارها انتصاراً، فبدأ يعلن عن دوره ومواقفه، والبعض الآخر قاده دخول الحرب عامها الرابع وإحساسه بالتهديد الذي قد يصل إلى عمق الدار، إلى إعادة التحالفات وترتيب الأولويات . ففي تصريح غريب بعض الشيء أطلقه أخيراً قائد القوات الجوية التابعة للحرس الثوري الإيراني، العميد أمير علي حاجي زادة، قال إن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة وعدم سقوط نظامه يعود في جزء كبير منه إلى رغبة إيران في استمراره، وأضاف أن 86 بلداً في العالم تدخلت لإسقاط النظام السوري لكنّ إيران لم تقبل ذلك، وهو ما أفشل مساعي تلك الدول، وهو تصريح يحمل بعض نشوة انتصار، ليس لأن انتصاراً تحقق على الأرض بشكل واضح، وإنما لأنه بعد مرور أربع سنوات، لا يزال نظام الأسد صامداً، وهذا الصمود، على ما يبدو، يعني الانتصار في عقلية بعضهم . لكن هذا الكلام لا يتقبله كثيرون، ولا حتى نظام الأسد نفسه، لأن فيه بعض وصاية (ومنّية)، ولهذا قال عضو مجلس الشعب السوري شريف شحادة تعقيباً على تصريح المسؤول الإيراني إن الأسد يستمد شرعيته من الشعب السوري وصمود الجيش، ورفض في اتصال مع قناة الجزيرة أن يتم نسب استمرار الأسد في السلطة إلى الدعم الذي قدمته إيران أو حزب الله اللبناني .


الأمر ذاته فعله السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله في لبنان، حين ذكر في خطابه الأخير، وبنشوة المنتصر، وقال quot;لو انتصر الإرهاب التكفيري في سوريا سنلغى جميعاً ليس الحزب ولا المقاومة . . سنُلغى جميعاً ونُشطب جميعاً . .أما لو هُزم التيار التكفيري الإرهابي في سوريا فأنا أقول لكم سنبقى جميعاً . .quot;، ومرة أخرى، فإن عدم دخول (التكفيريين) إلى لبنان اعتبره نصر الله انتصاراً، وربما اعتبره هزيمة (للتكفيريين)، بمجرد أن الحرب طالت، ولم يحقق (التكفيريون) أهدافهم في القضاء على مناوئيهم وأعدائهم، ولكن الفرق بين المسؤولين اللبناني والإيراني يكمن في أن الأول لم يشر إلى أن تدخله ساهم في عدم سقوط الأسد .


إطالة أمد الحرب أيضاً غيرت بعض التحالفات الإقليمية، بل غيرت من إيديولوجيتها واستراتيجيتها، فقد أعلنت السعودية قبل فترة قصيرة وبشكل رسمي عن قائمة توضح التنظيمات التي تعتبرها إرهابية، وشملت القائمة التي أعلنتها وزارة الداخلية السعودية، جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وفروعه في جزيرة العرب، واليمن، والعراق، والدولة الإسلامية في العراق والشام quot;داعشquot;، وجبهة النصرة في سوريا، وحزب الله في السعودية، وجماعة الحوثي، وقد فصّل البيان الرسمي القرار، حيث حذرت الداخلية السعودية السعوديين والمقيمين في المملكة من عواقب تقديم أي دعم من أي نوع، حتى لو كان بالتعاطف، للجماعات المدرجة على قائمة الإرهاب .


كما غيرت استمرارية الحرب من مواقف الغرب تجاه المعارضة في سوريا، كونها، الدول الغربية، لا تملك صورة واضحة عن طبيعة القتال الدائر على الأرض، خاصة بعدما تدفق إلى سوريا عشرات الآلاف من المقاتلين غير السوريين، وجلّهم من المتشددين القادمين من أفغانستان وباكستان والشيشان وليبيا وتونس ودول من أوروبا الغربية وغيرها، واعتبرتهم خطراً يهدد أمنها القومي، والتهديدات التي أطلقها العائدون من القتال في سوريا لبريطانيا وأمريكا وألمانيا كانت كفيلة لتؤكد لهم بعض هواجسهم، ولهذا، تراجعت نسبة تدفق السلاح من أوروبا وأمريكا للمعارضة، ولكن، وفي المقابل، تدخلت تركيا بشكل مباشر في معارك الساحل، وقال وزير الخارجية الأرمني quot;أدوار نالبنديانquot; في تصريحات لوكالة أنباء quot;إنترفاكسquot; الروسية في بداية شهر أبريل الجاري إن quot;كافة الدلائل تؤكد تعرض بلدة كسب ذات الأغلبية الأرمنية إلى هجمات من قبل مسلحين مرتبطين بتنظيم القاعدة قدموا من تركياquot; .


صحيح أن أمد الاقتتال طال في سوريا، وفي ظل هذا التأرجح والمراوغة وتبدل التحالفات، وتدفق المقاتلين من كل حدب وصوب، والتهديد بانتقال الفتنة إلى الدول المجاورة، وعدم تحمس الأطراف التي تزعم أنها تدعم المعارضة للتورط بشكل مباشر في القتال، ومع استمرار الدعم الذي يتلقاه النظام من حلفائه، وإن منّوا عليه، فإن أمد الحرب سيطول، حتى إن بسط الجيش السوري سيطرته على الأراضي السورية كافة، لأن المطلوب، إضافة دولة أخرى إلى القائمة التي تضم العراق وليبيا والسودان واليمن ومصر، لتعاني الفوضى والدمار .


صحيح أن النظام لم يسقط، لكن سوريا كبلد حضارة وثقافة ومعالم تاريخية، قد قاربت على السقوط، وستكون لقمة سائغة في أفواه حلفائها وأعدائها في آن، إذا لم يتقدم العرب أولاً، والمجتمع الدولي ثانياً، لإنقاذ سوريا الشعب والتاريخ، لأن المسألة تجاوزت الحفاظ على النظام أو على رمز معين، لتلامس خطر تهجير وتشتيت 27 مليون سوري، واختفاء سوريا بحدودها الحالية من الوجود