سمير عطا الله


اكتظ عالم غابرييل غارسيا ماركيز بالجنرالات والديكتاتوريين والفقر. تلك كانت قارته اللاتينية عندما بدأ الكتابة في الأربعينات، غير مصدق أن المجلات الأدبية بدأت تنشر قصصه القصيرة. في إحداها laquo;في يوم ماraquo; يأتي رئيس البلدية، وهو عسكري وجلاد أقبية، إلى عيادة طبيب الأسنان laquo;الذي لم يدخل كلية طبraquo;، وهو يعاني من ألم شديد في ضرسه وفمه متورم غير قادر على الكلام. كل ما استطاع قوله هو أنه سيقتل الطبيب إذا لم يساعده على تخفيف الألم!

يتأمله الطبيب جيدا ويتذكر 20 جارا من جيرانه قتلوا تحت التعذيب بين يديه، فيقنعه أنه من الأفضل خلع الضرس من دون مخدر. وبعد الانتهاء يسأله إلى أين يرسل الفاتورة، إلى منزله أو إلى البلدية، فيجيب هذا laquo;وما الفرق؟raquo;. مزج ماركيز السخرية بالفانتازيا. وكان من الأكثر عرضة للدعابة في رواياته المهاجرون اللبنانيون، الذين عرفوا بلقب laquo;التوركوraquo; لأن آباءهم هاجروا أوائل القرن الماضي يوم كان لبنان لا يزال تحت الحكم التركي. وقد عمل معظمهم في التجارة الصغيرة والبقالة. ومنهم والد كارلوس سليم، المكسيكي الذي أصبح لثلاثة أعوام أغنى رجل في العالم. ويحتفظ الزميل شوقي الريس بسند قرض بسيط، قدمه جده لوالد كارلوس سليم في دكانه الصغير، وعليه اسم الأب وشعار الدكان معا. في روايته laquo;حكاية موت معلن مسبقاraquo; يعطي ماركيز بطله اسما لبنانيا هو laquo;سانتياغو نصارraquo;. وعندما سأله شوقي الريس في مقابلة لـlaquo;المجلةraquo; عن حقيقة الأمر، أجاب ماركيز أن البطل الحقيقي كان إيطاليا، لكنه أعطاه اسما لبنانيا للتمويه. أما laquo;التوركوraquo; الآخرون في بقية الروايات فكانوا فعلا من أصول لبنانية.

يظهر laquo;البطلraquo; اللبناني ولكن بصورة بطولية غير ساخرة في رواية laquo;حلة التيسraquo; للاتيني الآخر مارغو فارغاس يوسا، نائل نوبل الآداب هو أيضا، ومنافس ماركيز وخصمه اللدود. وقد اشتهر عنهما شجار انتهى مرة بالملاكمة الحقيقية. في laquo;مائة يوم من العزلةraquo; البطل ليس لبنانيا لكن الشارع الرئيسي في ماكوندو، مدينته المتخيلة، هو laquo;شارع الأتراكraquo;.

بدأ ماركيز حياته صحافيا وبقي يعتقد أن الرواية امتداد للصحافة بأسلوب آخر. كان يقول إن النقاد يمتدحون السحر في مخيلته لكنه لم يكتب سطرا واحدا في حياته لم يكن مصدره الواقع. تعلم من الصحافة أمثولات كثيرة، مثلا: إذا قلت إن الأفيال تطير فلن يصدقك أحد. لكن إذا قلت إنك شاهدت 425 فيلا تحلق، فقد يفكر الناس في الأمر: laquo;المشكلة التي يواجهها كل كاتب هي المصداقية. في إمكان أي كان أن يكتب أي شيء إذا كان ذلك قابلا للتصديقraquo;.

أي شخصية كان يقصد في وصفه للديكتاتوريين؟ جميعهم. الكتابة مثل الرسم. خليط من كل شيء: laquo;كلما استحوذت على المزيد من السلطة، صعب على الآخرين أن يصدقوك القول. عندما تبلغ السلطة المطلقة تفقد الصلة بالواقع، وهذه أسوأ أنواع العزلة. كل ديكتاتور محاط برجال ومصالح، همهم الوحيد أن يعزلوه عن الحقيقة. كل شيء يرتب على هذا الأساسraquo;.


gt;