عبد الوهاب بدرخان

وفقاً للمسار الذي اتخذته الانتخابات العراقية، فإن كل التوقعات تُظهر laquo;ائتلاف دولة القانونraquo; فائزاً كأكبر كتلة في البرلمان، أي أن شيئاً لن يزعج نوري المالكي في السعي إلى ولاية ثالثة في منصبه. كانت الأولى هيأت الظروف للثانية، رغم بروز laquo;العراقيةraquo; في الانتخابات الماضية ككتلة كبيرة أقرب إلى المعايير الوطنية منها إلى المذهبية المؤدلجة. ومهّد سوء استغلال الوجود في السلطة للولاية الثالثة، رغم وجود حاجة إلى التغيير غير قابلة للدحض أو حتى للجدل، ومن أهم أسبابها أن رئيس الوزراء فَقَد أو بالأحرى تفنن في إفقاد نفسه القدرة على تحقيق توافقات أو إدارة التفاهم مع مختلف المكوّنات العراقية. وإذا تحقق هذا السيناريو، فإن الولاية الثالثة ستفضي حتماً إلى الرابعة، وهكذا تكون laquo;الصدّاميةraquo; البعثية استُنسخت على أيدي ألدّ أعدائها، مع فارق أن العراق كبلد وكيان مهدّد الآن بالتشظي.

ورغم أن laquo;التحالف الوطنيraquo; الذي يضم الأحزاب الشيعية لم يعد كتلة واحدة كما كان إبان الانتخابات السابقة، إلا أن الانقسام يلعب لمصلحة المالكي، وليس ضدّه. كذلك الأمر بالنسبة إلى laquo;العراقيةraquo; التي أصبحت كتلاً متعددة. ولا شك أن الأطراف الأخرى تستطيع، نظرياً، التحالف لإخراج المالكي من منصبه، غير أن تحالفاً من نوع laquo;صنع في العراقraquo; لا يزال يبدو نظير الأحلام، لأنه يستلزم بدوره تقاطع مصالح الشيعة والسنّة والأكراد وتفاهماً بين أحزابهم على برنامج سياسي واحد.


قد يقال إن هذا التفاهم ممكنٌ، نظرياً أيضاً، لكن أي ملمح له لم يظهر قبل أسبوع من الانتخابات، وإذا كانت الاتصالات الجارية حالياً تهيئ لطرحه بعدها فلأن الأطراف تريد أن تتعرّف أولاً إلى نتائج التصويت.

ماذا يعني ذلك؟ أولاً، إذا كانت الكتل الرئيسية راغبة في التحالف لهدف سياسي، محدّد فإن قواعدها الناخبة غارقة في استقطاب طائفي ومذهبي لا يشجّع أقطابها على كشف أوراقهم منذ الآن، خصوصاً أن المالكي برهن مهارة فائقة في اختراق البيئات المناهضة له باستمالة عشائر وعوائل وأشخاص واستغلال طموحاتهم. وثانياً، أن الجميع تعلّم من الحكم المأزوم أن الوسيلة الفضلى انتزاع المكاسب، وليس البحث عما هو أفضل أو أسلم للعراق وأهله، فنادرون اليوم مَن يطمحون إلى انتشال البلد من محنته وإعادة اللحمة بين العراقيين، وكثيرون مَن لا يمانعون في نيل مصالحهم ولو على جثة البلد. وثالثاً، أن الكتل الراغبة مبدئياً في التحالف ليست متأكدة من أن تقاربها سيضيف إليها ميزات يمكن أن تترجم بمزيد من الأصوات.

فمؤيدو laquo;التيار الصدريraquo; وlaquo;المجلس الأعلىraquo; قد لا ينظرون بعين الرضا إلى تحالف مع السُنّة أو الأكراد الذين تحدّوا laquo;الحكم المركزيraquo;، الذي يعتبر الشيعة أنه تكرّس لهم. ولا شك أن البيئات السُنّية والكردية لديها اعتبارات مماثلة تجاه الشيعة.

أصبح معروفاً، بل معلناً، أن المرجعية الشيعية تحبّذ laquo;التغييرraquo; من دون أن تقود الحملة لتحقيقه. ومردّ ذلك بين مآخذ عدة على المالكي أن نهجه أدّى على المستوى السياسي إلى الإساءة إلى الشيعة وتجربتهم في حكم العراق وإلى علاقتهم بالمكوّنات الأخرى، ما انعكس انتكاسةً على المستوى الأمني، تبدو laquo;الحرب على داعشraquo; أحد أبرز إخفاقاتها. فالمطلوب - عراقياً وأميركياً - هو اجتذاب السُّنة إلى الدولة وجيشها، وليس الاستهتار بمطالبهم وإضعافهم وبالتالي إظهار laquo;داعشraquo; كأنها الجهة المدافعة عن مصالحهم. لكن، قبل مواجهة الإرهاب وبالتزامن معها، لم يشأ المالكي الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها حيال الأكراد والسنّة، بل استخدم الخصام معهم والشحن الإعلامي ضدّهم لتكثيف شعبيته داخل جمهور طائفته، رغم أن التطوّرات برهنت أن تصلّبه غير المبرر قاد إلى نتائج عكسية بل كارثية.

كانت الحرب على laquo;الدولة الإسلامية للعراق والشامraquo; بدأت بنتائج إيجابية أيدتها الأطراف السياسية بلا تردد. لكن سرعان ما تبيّن أن أولويات المالكي مختلفة عما أظهره، فمن جهة أراد هذه الحرب وسيلةً يسحق احتجاج محافظات السنّة في سياقها، ومن جهة ثانية اختار (أو اختارت إيران) توقيتاً للحرب يخدم المجريات العسكرية في سوريا والاستخلاصات السياسية التي تريد إيران فرضها سواء في العراق أو في سوريا ولبنان. وسواء كان يعلم المخططون مسبقاً باحتمالات تحرك laquo;داعشraquo; للسيطرة على الفلوجة أم لا فإن ما حصل لاحقاً شكل إخفاقاً كبيراً للمالكي وحكومته، بل تقاعساً مقصوداً، إذ فضّل ترك المدينة ومحيطها يخضعان للتنظيم الإرهابي كما لو أنه ينتقم منهما. وإذ شرع laquo;داعشraquo; في التلاعب بالمياه عبر السيطرة على سدّ الفلوجة والاستعداد لمهاجمة سد الموصل فإن الإخفاق تضاعف. لكن المالكي يستخدم laquo;الحرب على داعشraquo; لاستثارة أنصاره ضد التكفيريين، أسوة بالنظامين الإيراني والسوري وlaquo;حزب اللهraquo;، ولا خوف لديه من تأثير الفشل في حملته الانتخابية لأن الناخب هنا لا يحاسبه وفقاً للمصلحة الوطنية بل المذهبية. فإذا قدّر له أن يبقى في المنصب سيجعل من هذه الحرب تدشيناً للولاية الرابعة، وإذا فَقَد المنصب يكون قد ترك لخَلفه الهدية المسمومة.