هانى شكرالله

دار الحديث على مائدة عشاء السفير البريطانى فى القاهرة، جيمس وات. وتطرق كما كان محتما إلى تنظيم الإخوان المسلمين وما قد يحمله المستقبل من احتمالات لاعادة ادماجه فى الحياة السياسية. لست بصدد عرض ما دار من حوار


وأكتفى بعرض بعض مما قلته أنا فى تلك المناسبة. قلت: الأمريكيون والأوروبيون يتحملون قسطا كبيرا من المسئولية عما آل إليه حال الإخوان، فباستنكافهم عن الاعتراف الصريح بالرفض الشعبى العارم لحكم الإخوان، وانكارهم الفعلى للحالة الثورية المتواصلة فى مصر منذ 2011، - وهى (وليس الانقلاب المزعوم) التى أطاحت بحكمهم - أسهموا فى تدعيم حالة الإنكار التى انتابت قيادة التنظيم قبيل وبعد 30 يونيو، وفى إذكاء أوهامهم فى امكانية رد الموجة الثورية استنادا إلى دعم غربى laquo;لشرعية الصندوقraquo;، وهو ما لعب دورا لا يستهان به فى اللوثة الانتحارية التى أصابتهم - قيادة وقواعد - عقب 30 يونيو.

رويت وقائع حوار دار بينى وأحد كوادر الإخوان فى تلك الفترة، يكشف عن عمق وحدة حالة الإنكار التى أصابت التنظيم بما يصل بها إلى مستوى المرض العقلي، فالهبة الكبرى فى 30 يونيو عند هذا laquo;الأخraquo; هى مجرد جماعات من الأقباط كارهون للإسلام، والباقى laquo;فوتوشوبraquo; خالد يوسف، أما الأغلبية الساحقة للشعب (المسلم) فهى مع laquo;الشرعيةraquo;، ومرسى سيعود خلال أيام! ولا يخفى على أحد ما يكشف عنه العصاب الإخوانى من عداء عميق الجذور للمسيحيين المصريين،.

قلت أيضا: لم تكن اللغة التى استخدمتها أمريكا وأوروبا إزاء المواجهة مع الإخوان بعد 30 يناير لغة حقوق انسان وحقوق مدنية وسياسية، كما تدعون، وإنما لغة حل منازعات، تكاد تكون متطابقة حرفيا مع اللغة التى عهدناها لسنوات طوال إزاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلي، بما فى ذلك دعوات laquo;الجلوس إلى مائدة المفاوضاتraquo;وإجراءات laquo;بناء الثقة من الطرفينraquo; والزيارات laquo;المكوكيةraquo; من قبل الوسطاء من كبار المسئولين الأمريكيين والأوربيين. ويبقى الأكثر خطورة فى استخدام مثل هذه اللغة إزاء صراع سياسى داخلى هو الإيحاء بأن الشعب المصرى منقسم على نفسه، وبأن مصر فى غمار اقتتال أهلى بين قسمى هذا الشعب، وهو ما يوحى بدوره بإحتمالات التدخل العسكرى الخارجي. ولعله من الواضح ما كان لإيحاءات من هذا النوع من قبل القوى الكبرى فى العالم من آثار على الذهنية المحمومة أصلا لقيادة الإخوان، ومن ثم من مسئولية عن اندفاعهم الانتحارى وصولا لمأساة فض اعتصامى رابعة والنهضة وما تلاه من حينها. كما قلت: حتى حين تقرون بمثالب حكم الإخوان، تتحدثون عن عدم كفاءة وقلة خبرة، وهو ما ينطوى على انكار فعلى للسبب الجوهرى وراء انتفاضة الشعب المصرى على حكم الإخوان، إلا وهو مشروعهم المحموم لبناء نظام استبدادى وقمعى محصن بغطاء ديني، أى لاعادة إنتاج نظام مبارك ملتحيا.

الموقف الأمريكي- الأوروبى مما جرى ويجرى فى مصر منذ الموجة الثالثة للثورة المصرية فى 30 يونيو ليس موضوعنا هنا مع ذلك، ورويت ما رويته أعلاه وضعا للسؤال الكبير المطروح علينا نحن المصريين فى نصابه الصحيح: ماذا نحن فاعلون بالإخوان المسلمين؟ وأدعى أننى حاولت ولم أنجح بعد فى فهم laquo;العقل الإخوانيraquo;. غير أن حمى التمكين التى تملكت قيادة الإخوان منذ صفقة فبراير 2011 (المباركة أمريكيا) وصولا إلى حركة المحافظين للرئيس السابق محمد مرسى فى يونيو 2013 ربما تقدم جانبا من الصورة.

وللحمى الإخوانية وجهان متناقضان فى الحقيقة، وإن دفعا قيادة التنظيم فى اتجاه انتحارى واحد. فهاهنا حلم ثمانين عاما ونيف يبدو قيد التحقق، والكل تقريبا موقن بأن البديل الوحيد الممكن لنظام مبارك المنهار هو فى صيغة مشاركة ما للإخوان المسلمين فى السلطة، فتلك هى قناعة المجلس العسكرى الذى تولى السلطة فى 11 فبراير 2011، وهى القناعة المشتركة للأمريكيين الأوروبيين، بل وحتى لأقسام لا بأس بها من laquo;فلولraquo; مبارك، وأجهزته الأمنية. كلهم غير قادرين على استيعاب معنى الثورة الشعبية، وعاجزون عقليا عن استيعاب حقيقة أن الشعب المصرى يمكن أن يثور أصلا، فضلا عن أن يمتلك رؤية للمستقبل وللمجتمع والدولة ساطعة ومبهرة كتلك التى شهدناها خلال الـ 18 يوما وبعدها، وسواء فهموها أو عجزوا عن فهمها، فهى بالنسبة لهم جحيم مقيم. هكذا بدت إعادة المصريين إلى حيث كانوا قبيل 25 يناير، ليقبعوا لعقود مجددة فى حظيرة الخوف والصبر والصمت، متوقفة على منح حصة ما فى سلطة الدولة للإخوان المسلمين خصوصا، والتيار الدينى بوجه عام، وكما فى أى شراكة بقى موضوع التفاوض والتنازع والمقايضة هو حصص الشركاء.

اقتنع الجميع، غير أن الشعب المصرى الثائر لم يشاركهم قناعتهم. ومن هنا ينبع الوجه الثانى للحمى الإخوانية. فبقدر ما بدت الفرصة سانحة لتحقيق حلم عقود طويلة من الزمان، كان واضحا للعيان فى الوقت نفسه أن هذه الفرصة لن تسنح طويلا، بل وإنها زائلة وبسرعة صاروخية، فهناك ملايين مازالت تواقة لتحقيق ارادة الثورة فى الحرية والعدالة الاجتماعية، نزعت الخوف والمذلة عن كاهلها، وباتت مستعدة لتقديم التضحيات الضرورية فى هذا السبيل. وهكذا وجدت قيادة الإخوان نفسها إزاء laquo;لحظةraquo; سانحة بالمعنى الحرفى للكلمة، فإما التمكين الآن وإلا فلا إلى الأبد. فكان السعار وكان السباق المحموم لابتلاع وهضم الدولة والمجتمع المصرى فى أسرع وقت ممكن، ومن ثم كانت الهرولة وكان التخبط والكر الخائب والفر التعس.. وكانت الموجة الثالثة للثورة المصرية فى 30 يونيو 2013.. وللحديث بقية فى المقال المقبل بإذن الله.