عبدالحق عزوزي

للكاتبين جي هيرمت وبرتراند باري كتاب قيم عن السياسة المقارنة؛ وجي هيرمت عالم سوسيولوجي ومتبحر في العلوم السياسية وله كتابات ذائعة، وبرتراند باري متخصص هو أيضاً في العلاقات الدولية وأستاذ في معهد الدراسات السياسية بباريس... والكتاب فريد من نوعه إذ سبر أغوار مناهج السوسيولوجيا المقارنة ومكتسباتها على مستوى الإلمام بمختلف الظواهر السياسية، كما يضع الكتاب أمام المتتبع تفسيرات غير مسبوقة لفهم السلطة وممارساتها وتغيراتها.. وقد تناول الكاتبان بالتحليل والنقد وباهتمام كبير قضية التغيرات الحاصلة في الديمقراطيات الغربية والأزمات السياسية والاجتماعية التي طالت بلدان الجنوب في إطار التحليل المقارن.

وعلم السياسة المقارنة هو أسلوب للمساءلة يهم مجموع الظواهر السياسية، وهي الوحيدة القادرة على إبراز خصوصية كل ظاهرة على حدة... وهو بديل علمي في الكثير من الأحيان عن المنهج التجريبي، الذي تصعب عليه الإحاطة بالظاهرة السياسية كظاهرة إنسانية... وعلم السياسة المقارنة ما زال ضعيفاً في المدرسة الفرانكوفونية في حين عرف تجذيراً له في الجامعات الأنجلوساكسونية أو الشمالية تحت اسم السياسات المقارنةrlm;Comparative Politics‮ ‬ أو‮ ‬الحكم‮ ‬المقارن Comparative Government ‬وهو‮ ‬يتلاءم‮ ‬بشكل‮ ‬جيد‮ ‬مع‮ ‬تقنيات‮ ‬التحليل‮ ‬الكمي‮ ‬وأنواع‮ ‬الحساب‮ ‬الإحصائي‮ ‬المطبقة‮ ‬بالخصوص‮ ‬على‮ ‬السلوكات‮ ‬السياسية‮ ‬بفعل‮ ‬تناولها‮ ‬لمنهجية‮ ‬حساب‮ ‬العوامل‮ ‬المستقلة‮ ‬والعوامل‮ ‬غير‮ ‬المستقلة... ونسجل‮ ‬هنا‮ ‬وجود‮ ‬هذا‮ ‬المسمى‮ ‬باستمرار‮ ‬في‮ ‬الكتب‮ ‬والمجلات‮ ‬الأميركية‮ ‬المتخصصة‮ ‬كمجلة ‮ ‬American Political Science Review.

وعلم السياسة المقارن يساعد على معرفة الذات أكثر وأكثر لأن الإحاطة بالآخر هي أعظم وسيلة لفهم ما يشكل مقومات ومحددات الذات... وكما أن فكرة اللون ستكون غائبة عنا، إذا ما كان العالم يشمل لوناً واحداً فقط، كذلك فإن التصنيف المونوغرافي قد يؤدي بالباحث إلى عدم فهم خصوصية النظام السياسي الذي يدرسه ما دام لم يستطع مقارنته بنظام آخر، وبالتالي فإن غياب المقارنة يؤدي إلى غياب الفهم والتأويل الصحيحين... قارن معي مثلاً: إذا أردت أن تفهم لماذا وقعت الاحتجاجات السياسية في تونس التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، ولماذا تصعب هذه الاحتجاجات في الجزائر وتفسير الانتخابات الرئاسية الجزائرية الأخيرة، ولماذا يشكل المغرب استثناء سياسياً في محيطه المغاربي، فإن دراسة مقارنة للأنظمة السياسية منذ الاستقلال تجعل الباحث يخرج بنتائج أعم وبتحاليل أكثر موضوعية وعلمية.

فالمغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ استقلال المغرب نظام الحزب الواحد ولم ينتمِ عاهل البلاد إلى أي حزب سياسي لأن ذلك كان سيخالف محددات الشرعية القائمة في هذا البلد والمبنية على رباط تاريخي بين العاهل والشعب يعبر عنه في احتفال البيعة الذي تقيمه الأمة/ الجماعة بكل مكوناتها إضافة إلى سلالته الشريفة. وهذان العاملان يعطيان لملك المغرب شرعية تاريخانية ومؤسساتية دينية تنزهه عن الصراعات والتحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة/ الجماعة. ومثل هذه الشرعية كانت غائبة في تونس والجزائر عند الاستقلال، فاستندت شرعية النظام إلى الحزب الحاكم (تونس) أو إلى الجيش (الجزائر)... فالجيش تربع على عرش الحكم في الجزائر دون أن يظهر في الواجهة على شاكلة دول أميركا اللاتينية، ولكنrlm;‭ ‬أحداث‮ ‬تسعينيات‮ ‬القرن‮ ‬الماضي‮ ‬جعلته‮ ‬يظهر‮ ‬بجلاء‮ ‬في‮ ‬المجال‮ ‬السياسي‮ ‬العام‮ ‬بسبب‮ ‬فشل‮ ‬أول‮ ‬ميثاق‮ ‬سياسي‮ ‬في‮ ‬تاريخ‮ ‬الجزائر...‮ ‬فأدت‮ ‬الأحداث‮ ‬إلى‮ ‬مقتل‮ ‬ما‮ ‬يزيد‮ ‬على‮ ‬مائة‮ ‬ألف‮ ‬جزائري‮ ‬وهو‮ ‬ما‮ ‬ترك‮ ‬لحد‮ ‬الساعة‮ ‬جروحاً‮ ‬في‮ ‬الذاكرة‮ ‬المجتمعية.

‮ ‬أما‮ ‬في‮ ‬تونس‮ ‬ففي‮ ‬عهدي‮ ‬بورقيبة‮ ‬وبن علي‮ ‬كانت‮ ‬التجربة‮ ‬التونسية‮ ‬فاقدة‮ ‬لأي‮ ‬نوع‮ ‬من‮ ‬أنواع‮ ‬الميثاق‮ ‬السياسي‮ ‬التعاقدي‮ ‬بسبب‮ ‬قوة‮ ‬وهيمنة‮ ‬الحزب‮ ‬الحاكم،‮ ‬حزب‮ ‬التجمع‮ ‬الدستوري‮ ‬الديمقراطي،‮ ‬وكون‮ ‬رئيس‮ ‬الدولة‮ ‬هو‮ ‬المسؤول‮ ‬الأول‮ ‬عن‮ ‬الحزب،‮ ‬حيث‮ ‬جعلته‮ ‬يهيمن‮ ‬على‮ ‬الفضاء‮ ‬السياسي،‮ ‬ومن‮ ‬ثم‮ ‬كانت‮ ‬هيمنة‮ ‬الدولة‮ ‬على‮ ‬المجتمع‮ ‬السياسي‮ ‬برمته‮ ‬وما‮ ‬تبع‮ ‬ذلك‮ ‬من‮ ‬تكميم‮ ‬لأفواه‮ ‬المعارضة‮ ‬والزج‮ ‬بها‮ ‬في‮ ‬غياباب‮ ‬السجون‮‬؛‮ ‬ومن‮ ‬ثم‮ ‬تمأسست‮ ‬الثنائية‮ ‬الشهيرة‮ laquo;‬الحزب-الدولة‮raquo;‬،‮ ‬وكان‮ ‬ما‮ ‬يزيد‮ ‬على‮ ‬80‮ ‬ في‮ ‬المئة‮ ‬من‮ ‬المقاعد‮ ‬في‮ ‬البرلمان‮ ‬يعطى‮ ‬باسم‮ ‬القانون‮ لحزب‮ ‬رئيس‮ ‬الدولة؛‮ ‬وكان‮ ‬لا‮ ‬يتصور‮ ‬إحداث‮ ‬مجال‮ ‬عمومي‮ ‬مستقل‮ ‬خارج‮ ‬المجال‮ ‬السياسي‮ ‬الرسمي‮ ‬إلى‮ ‬أن‮ ‬حصلت‮ ‬ثورة‮ ‬الياسمين‮ ‬التي‮ ‬خسفت‮ ‬بالنظام‮ ‬وأهله.‮ ‬فدراسة‮ ‬مقارنة‮ ‬للأنظمة‮ ‬السياسية‮ ‬الثلاث‮ ‬تجعلك‮ ‬تخرج‮ ‬بنتائج‮ ‬ملموسة ‬وتضعك‮ ‬في‮ ‬فهم‮ ‬وتحليل‮ ‬أكثر‮ ‬علمية.

كما أن علم السياسة المقارنة يؤدي بالباحث إلى تبني رؤية نسبية وعدم الزج بتحاليله ونتائجه في حتميات ومقتضيات، فليست هناك حتميات شمولية ولا توجد نظريات سياسية شمولية تماماً... وإدراك هذا المعطى العلمي يسمح للباحث بتفكيك اليقينيات التي بناها الآخرون وتطوير العلوم الإنسانية وعدم تقييدها ببراديغمات (وثوقيات) مثبطة... والمتتبع اللبيب لكتاب السياسة المقارنة سيفهم أنه حتى في العالم الغربي فإن كلمات مثل دولة، مواطنة، رعية، حكومة، علمانية، سياسة، انتخابات، تفهم بطريقة خاصة في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وسويسرا.

كما أن علم السياسة المقارنة يؤدي بالبحث العلمي إلى التحرر من المركزية التي تقتل النتائج العلمية ويثمِّن التعددية والتنوع ويبرز أهمية الحدث والابتكار والقطيعة والتعبئة ولكن شريطة عدم السقوط من جديد في تفسير شمولي آخر عبر اللجوء مثلاً إلي الحتميات الثقافية التبسيطية الخطيرة جداً.

وقد كنا كتبنا سلفاً في هذا الباب أنه طوال الخمسين سنة الماضية، استعمل العديد من الباحثين الغربيين بعض المناهج التفسيرية المركزية لتحليل غياب الديمقراطية في العالم العربي وجلها متعلقة بالذهنيات والمسالك عند العرب، وهو ما يعني عندهم أن كل ما له صلة بالإنسان العربي والعقل العربي إنما هو رديف للتراجع السياسي والحضاري والتخلف الفكري والحداثي! فأصبحت تلك الذهنيات والمسالك، بمثابة العامل المستقل في ‬تفسير‮ ‬غياب‮ ‬الديمقراطية‮ ‬والمؤسسات‮ ‬والتطور‮ ‬الاجتماعي‮ ‬والاقتصادي،‮ ‬والركود‮ ‬السياسي...‮ ‬فلا‮ ‬مناص‮ ‬أن‮ ‬تجد‮ ‬في‮ ‬هذه‮ ‬الكتابات‮ ‬تماديا‮ً ‬في‮ ‬الاستهانة‮ ‬بالعقل‮ ‬والذات‮ ‬الحضارية‮ ‬العربية‮ ‬وخروجا‮ً ‬عن‮ ‬قواعد‮ ‬العلوم‮ ‬السياسية.‮