إياد أبو شقرا

اعتدنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على مفهوم laquo;الرّدعraquo; الذي تبلوَر مع بداية laquo;الحرب الباردةraquo;، وشمل laquo;الردع النوويraquo; بكل تفاصيله ودقائقه. وكان laquo;الردع النوويraquo;، وبصورة أدقّ laquo;توازن الرعبraquo; والقدرة على الإفناء المتبادل بعد استيعاب الضربة الأولى، عنصرا مهما الذي أثمر عدة نتائج، أهمها:

1- تسهيل حصول معظم دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية استقلالها، بفعل ثورات على دول laquo;الاستعمار القديمraquo; مدعومة من قبل الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية.

2- وراثة الولايات المتحدة تركات laquo;الاستعمار القديمraquo;، ولا سيما، بريطانيا وفرنسا، اعتبارا من عقد الخمسينات من القرن الماضي.

3- ترسّخ laquo;الثنائية القطبيةraquo; الأميركية ndash; السوفياتية، أمام انتشار ظاهرتي الحروب بالواسطة والانقلابات العسكرية على امتداد العالم.

منطق laquo;الردّعraquo; كان في ذهن القادة الأميركيين والسوفيات والأوروبيين الذين جنحوا إلى التدخل العسكري عندما كانوا يشعرون أن مصالحهم المباشرة غدت مهدّدة. وكان الطرف الآخر يدرك أن عليه أن يتقبّل الربح أو الخسارة بالنقاط في هذه المنطقة أو تلك، من منطلق التفاهم الضمني على أن لكل قطب laquo;ملعبهraquo; الحميم أو الخاص المحظور الاقتراب منه أو التلاعب به، مقابل السماح بالتنافس والمناوشة في laquo;ملاعبraquo; أخرى أقل حصرية.

ومنذ الخمسينات شهدنا أمثلة عديدة للتدخّلات.. بشتى الأشكال والأحجام والأوجه، في كوريا وإيران والمجر وتشيكوسلوفاكيا السابقة وكوبا والهند الصينية والشرق الأوسط وعدة دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا.

حروب وانقلابات وإنزالات وغزوات عسكرية بهدف إسقاط قيادات محافظة أو إصلاحية أو راديكالية كانت سمة لمرحلة طويلة من علاقات التنافس القطبي. حتى برامج الأحزاب الديمقراطية في أوروبا ndash; حيث أخطر laquo;مسارح المواجهةraquo; أثناء الحرب الباردة بين الشرق والغرب ndash; كان موضوع التسلح النووي جزءا هاما في البرامج الانتخابية للأحزاب اليمينية واليسارية والليبرالية في أوروبا الغربية. ولقد اشتهر وصف laquo;أطول إعلان انتحار في التاريخraquo; الذي أطلقه السياسي البريطاني جيرالد كوفمان على البرنامج الانتخابي لحزب العمال البريطاني عام 1983، تحت قيادة زعيمه اليساري مايكل فوت، عندما تضمّن إصرار الحزب على نزع بريطانيا السلاح النووي أحاديا ndash; أي من دون اشتراط نزع سلاح مقابل في الكتلة الشرقية ndash; وبالنتيجة أدى إلى حرمان الحزب من السلطة حتى عام 1997.

laquo;الرّدعraquo; إذن مبدأ مهمّ جدا في العلاقات بين الدول. ثم إنه تصرّف واقعي عقلاني، بصرف النظر عما إذا كان أخلاقيا أم لا. فعالم السياسة يقوم على المصلحة، ولا بد أيضا من الحصافة التي تقدّر الظروف وتحدّد قيمة التنازل هنا وفوائد التشدّد هناك. ولعل من أهم صفات الزعيم الناجح هو أن يعرف متى يُهادن ومتى يهدّد، وفي وجه أي خصم يتشدّد أو يعتدل.

وعبر فترة الصراع المديد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.. شهد العالم سلسلة من التحدّيات المتبادلة بين العملاقين. إذ فرض السوفيات إرادتهم في قمع انتفاضة المجر أمام عجز واشنطن عام 1956. وردّ الرئيس الأميركي جون كنيدي عام 1962 بانتصار على الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف عندما فرض حصارا بحريا في كوبا إبّان أزمة تزويدها بالصواريخ السوفياتية (ردا على نشر صواريخ أميركية في تركيا) فاضطر خروتشوف لتجرّع النكسة. واستعادت موسكو المبادرة في قمع laquo;ربيع براغraquo; في تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1968. ثم تداخلت الانتصارات والنكسات في مواجهات العملاقين اعتبارا من 1979 في إيران وأفغانستان الصراع العربي الإسرائيلي. وعلى الرغم من انتصار الرئيس الأميركي المعتدل جيمي كارتر في رعاية laquo;اتفاق كامب ديفيدraquo;، جاءت ردّات فعله ضعيفة إبان أزمة الرهائن الأميركيين في طهران ما أسهم في هزيمته الانتخابية أمام laquo;صقورraquo; الجمهوريين بقيادة رونالد ريغان في نوفمبر (تشرين الثاني) 1980. ومن بعد، إبان عهد ريغان، واجه الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الابتزاز الاستراتيجي الأميركي باعتدال مفرط وتنازلات استرضائية.. فأثار سخط خصومه المحليين من اليسار واليمين مما عجّل بانهيار الاتحاد السوفياتي.

اليوم يكتفي الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي يقول إنه انتخب مرتين على أساس برنامج رفض الحروب وإنهائها، بالتهديدات والاستنكارات والعقوبات الاقتصادية في المواجهة الاستراتيجية المتجددة مع روسيا جديدة تحكمها قيادة قومية طموحة ومتشددة.

أوباما وأركان إدارته يفتحون laquo;مزادraquo; الخطوات والخطوات المُضادة بالإعلان سلفا عن أنه لا رغبة لواشنطن بخوض حرب، وفي هذا ndash; كما يظهر على الأرض ndash; طمأنة للخصم بل وتشجيع له على إطلاق يده في التصعيد كما يحلو له.

أوباما فعل هذا في سوريا أمام الدعم العلني المباشر بالرجال والسلاح الذي يلقاه نظام بشار الأسد من إيران وروسيا، وفي أعقاب سلسلة من التهديدات وlaquo;الخطوط الحمراءraquo; التي تساقطت كأوراق الخريف.. وكان مضمون هذه السلبية واضحا تماما للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ أدى إلى إنعاش آمال موسكو باستعادة مناطق نفوذها التقليدية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وبالفعل كان أول الغيث ضم شبه جزيرة القرم.

أين سيقف طموح بوتين الذي يغذّيه الضيق القومي لـlaquo;خسارةraquo; موسكو الحرب الباردة.. الآن؟

الكثير يعتمد على ردّات فعل اللاعب المقابل، أي أوباما. وحتى الآن ركّزت واشنطن على التلويح بالعقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية وعدد من الإجراءات التي أقنعت نفسها بأنها ستضايق الروس إلى حد التخلّي عن ثقتهم المتجدّدة بقدراتهم. وأضافت إليها بالأمس تذكيرا رسميا بأن laquo;موسكو تدرك جيدا أن ميزان القوى بين البلدين في صالح الولايات المتحدة التي بمقدورها فعل الكثيرraquo;.

ربما. والأرجح أن الولايات المتحدة بعدما خرجت إلى حد ما من أزمتها الاقتصادية الطاحنة ndash; وهنا الفضل يعود حقا إلى سياسات أوباما الداخلية ndash; باتت في وضع أفضل للتعامل مع الخارج. غير أن الكثير يعتمد على اقتناع الإدارة الحالية في البيت الأبيض بالأسس التي ينبغي أن تبنى عليها سياسة خارجية واقعية إزاء قوى منافسة مستعدة لاعتماد ابتزاز laquo;شفير الهاويةraquo;.

تصرفات موسكو وطهران تجاوزت الآن التهديدات اللفظية.. وخلقت واقعا على الأرض.