فيصل جلول

بدا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عبر quot;تهنئةquot; نظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة بفوزه في الانتخابات الرئاسية، وكأنه يصفع التيار الفرنكوفوني الذي راهن دائماً على باريس في نشاطه السياسي في الجزائر، ولشقيقه التيار العربي الذي يعتمد على دعم فرنسا في quot;الإصلاح والتغييرquot; في عدد من الدول العربية .


قال هولاند للرئيس المنتخب: quot;نتمنى لك النجاح التام في مهامك العلياquot; . وعلى الرغم من محاولة الإعلام الفرنسي نفي quot;التهنئةquot;، والقول إن التمني لا يعني quot;تهنئةquot;، فإن الرسالة قد وصلت لمن يعنيهم الأمر، وهي أن فوز الرئيس ليس حصيلة تحالف quot;بين المال المشبوه والتزوير والإعلام المرتشيquot; كما قال المرشح الذي لم يحالفه الحظ علي بن فليس بعيد إعلان النتائج . ولا اعتراض على رئاسة رجل مريض، يعاني آثار جلطة دماغية، وتعرف فرنسا بدقة حالته الصحية لأنه عولج في أحد أهم مستشفياتها كما قال ناطقون كثر باسم النخبة الجزائرية .


ولا اعتراض فرنسياً على العهدة الرابعة طالما باريس لم تعترض أصلاً على تعديل الدستور الذي تم قبل عهدتين لإتاحة العهدة الأخيرة . لا اعتراض على كل ما يتصل بالرئاسيات ليس فقط من جهة قصر الإليزيه وإنما أيضاً من طرف وسائل الإعلام التي غطت الانتخابات بموضوعية وبلا quot;عنتريات ديمقراطيةquot; ولا دروس ولا من يحزنون، الأمر الذي يتناقض تماماً مع سيرة التدخل الفرنسي في مثل هذه الحالات، والذي وصل أحياناً إلى حد شن حملة عسكرية لفرض اختيار رئيس واستبعاد
آخر، كما هي الحال في الكاميرون في عهد نيكولا ساركوزي الفائت .
يبرر الفرنسيون quot;تهذيبهمquot; وحرصهم على التزام أدب مخاطبة الجزائريين والعناية المفرطة في اختيار عباراتهم في التعليق على مجريات الحملة الرئاسية ونتائجها بالقول: quot;علاقاتنا بالجزائر في غاية الحساسية مهما قلنا فلن يمر قولنا مرور الكرامquot;، وإذا كان هذا التفسير صحيحاً فهو لا يكفي للإحاطة بخلفيات وظروف هذا الموقف، لكن قبل التعمق فيها لا بد من الاشارة إلى مواقف أخرى مماثلة ولاسيما الموقف الأمريكي . ذلك أن وزير الخارجية جون كيري لم يختر موعد زيارته إلى الجزائر في أول إبريل/نيسان أي عشية الانتخابات الرئاسية بمحض المصادفة، ولم يختر المرشح بوتفليقة مشهد المفاوضات المباشرة معه على الهواء بمحض المصادفة ولم يمتنع كيري عن التدخل في شؤون الترشيح ومرض الرئيس بمحض المصادفة ولم يمتنع عن استقبال المرشحين الذين طلبوا لقاءه بمحض المصادفة أيضاً وأيضاً والامتناع هنا لا يقارن بالحملة العسكرية التي شنتها أمريكا على العراق وكانت الديمقراطية أحد مزاعمها، ولا يقارن بنظام العقوبات الذي تفرضه واشنطن على دول بحجة عدم احترام شروط المنافسة الانتخابية أو الإدانات الأخلاقية الأمريكية المعروفة لرؤساء انتخبوا بشروط، يشكك المعارضون في نزاهتها .


وما يصح على الوزير الأمريكي يصح أيضاً على وزير الخارجية الإسباني الذي اختار زيارة الجزائر قبل أقل من أسبوع من الاقتراع، وكأنه ملهوف quot;لمتابعةquot; معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة الاستراتيجية بين البلدين في خضم الحملة الرئاسية . ويصح هذا الكلام أيضاً على الاتحاد الأوروبي الذي التزم سقف الموقف الغربي نفسه ونأى بنفسه عن انتخابات كان يمكن أن quot;يجعجعquot; حولها ما استطاع من quot;الجعجعةquot; لو تمت في بلد آخر .


لكن ما خلفيات هذا السلوك المؤدب إزاء الجزائر وما ظروفها ودوافعها؟
تتراوح الخلفيات والظروف بين الاعتبارات الاقتصادية والأمنية والمآل المأساوي للربيع العربي . أما الاعتبارات الاقتصادية فأبرزها الغاز الجزائري الذي يوفر ثلث الاستهلاك الأوروبي ويمنح الجزائر تغطية سيادية غير مسبوقة، وبالتالي يجعل التعاطي مع هذا البلد كالتعاطي الغربي مع كبار منتجي النفط، مع فارق أن الجزائر تختار ما يناسبها في المجابهات التي يخوضها الغربيون في المنطقة . ومن غير المستبعد أن يكون بوتفليقة نفسه وهو الدبلوماسي الماهر وراء هذه المعادلة التي تتيح للجزائريين حماية اللعبة السياسية في بلدهم بواسطة سلاح النفط، علماً أن الجزائر ليست مصنفة بين الدولة العربية التابعة .


ويضاف إلى سلاح الطاقة ارتفاع قيمة الجزائر الاستراتيجية بسبب الخلاف الغربي الروسي حول أوكرانيا، وبالتالي لا يمكن للغربيين أن يهملوا هذا الجانب في حساباتهم الجزائرية، خصوصاً أن غاز التدفئة والخدمة في المنازل الأوروبية يأتي بمعظمه من روسيا وبالتالي من الصعب على الغربيين أن يستعدوا الجزائر وروسيا في الآن معاً .


ومن جهة الأمن فإن الغربيين يحتاجون إلى الجزائر في مواجهة التيارات الدينية المتطرفة، وقد لعب هذا البلد دوراً مهماً للغاية في مالي جعله شريكاً للغربيين في الحؤول دون أن يتحول هذا البلد إلى دولة فاشلة ومتطرفة، فضلاً عن تعاون الجزائر مع الأجهزة الأمنية الغربية تحت سقف الحلف الأطلسي .


إن بلداً لا يمكن للحرب في مالي أن تقع على الضد من رغباته من الصعب أن يرضى بالتدخل الخارجي في شؤونه، ومن الصعب أن يخضع لإملاءات غربية في الانتخابات الرئاسية وفي غيرها .


والنقطة الأخيرة تتصل بما يسمى بquot;الربيع العربيquot; الذي انتهى إلى انفجار ليبيا وإلى حرب أهلية يمنية لا أحد يريد تسميتها وإلى أزمة داخلية مصرية وإلى نزاع قطري خليجي، وبالتالي من الصعب على الغربيين أن يتمنوا انفجاراً جزائرياً وعشرية سوداء جديدة لا تبقي ولا تذر في بلد لم ينس أهله بعد المجازر التي ارتكبت باسم الإسلام السياسي .


لهذه الأسباب ولغيرها التزم الغربيون quot;أدب المخاطبةquot; في تعليقهم على نتائج الانتخابات الرئاسية الجزائرية، ولهذه الأسباب ولغيرها نجح بوتفليقة من على كرسيه النقال في تظهير صورة الغربيين على حقيقتها منافقين لا يحترمون مبدأ، ولا يصرون على قيمة ولايدفعون ثمن موقف إذا كان خصمهم دولة فخورة وقادرة على حماية نفسها، وإذا ما تعلق الأمر بمصالحهم وارصدتهم التي لا تكف على الانتفاخ على حساب فقراء العالم وبؤسائه .