نسيم الخوري
أمامي مخطوطتان في انتخابات رئيس جمهورية لبنان . الأولى بعنوان quot;رئاسيّات في لبنانquot; تعود إلى 1988 والثانية بعنوان quot;أعرف رئيسك، أعرف عنه كلّ شيء وأطلب منه كلّ شيءquot; تعود إلى ،1995 وتتضمنان مقابلات مع 78 مرشّحاً غير معلن لهذا المنصب . مخطوطتان حافلتان بالأسرار والمفارقات والازدواجيات التي نادراً ما يألفها اللبنانيون عبر وسائل الإعلام .
ولهذا أسباب كثيرة، أوّلها أنني حاولت، عبر تدريسي لمادة quot;فنون المقابلة الإعلاميةquot; في الجامعة، إدراج مبادرة أو إشاعة ثقافة أن يبوح المرشّح لقيادة لبنان بكلّ ما يملك من أفكار وعناوين وبرامج يحلم بتحقيقها . وكان الباب الذي سهّل فتح الأبواب أمامنا أمرين: أوّلاً جمال طالبات الإعلام من ناحية بحيث أنّ كلّ فتاة تقف أمام المرآة تحلم بمرآة أخرى أوسع هي الشاشة أو الجريدة، وثانياً الوعد المرشح الخطي بأنّ ما سيقوله في أثناء المقابلة لن ينشر وسيتمّ التعامل معه فقط كمادة امتحان أكاديمية . واستطراداً، فإنّ الملفّ السياسي المخطوط أيضاً بعنوان quot;اتّفاق الطائفquot; الذي أنجزه الطلاّب الإعلاميون في مقابلات مع كلّ من شارك في دستور الجمهورية الثانية، ووفقاً للمعايير الأكاديمية نفسها في العام ،1991 يدهش القارئ لتلك المتناقضات بين المعلن والمضمر في الكلام السياسي الذي كان يمكن لو نشر أن يضع حياة بعض السياسيين في دوائر الخطر . لم ننشر بالطبع، لكن لماذا هذه الإشارة؟
1- لأنّ الصحافة اعتادت فتح الملفات الرئاسية بالكتيبات والسير الذاتية، لكنّ أحداً من الذين يتطلّعون إلى القصر الرئاسي لم يكن يعلن نيّته في السعي للوصول إلى هذا المنصب . أوّلاً، لأنّ كلّ ماروني عاقل كان يعتبر نفسه مرشحاً، وتقتصر محاوراته على محيطه الضيّق ونفي ترشّحه، وثانياً لأنّ العيون والآذان كانت تنصبّ على إشارات الخارج في هذا الاستحقاق المحكوم بكلمات السرّ أو quot;خيارات الربع ساعة الأخيرة من الاستحقاقquot;، وفي هذا حرج وإحراج لهوية القائد المحتمل الذي يأبى صورة التأرجح بين الداخل الوطني وخارجه . كان الصمت هو الأبلغ والأضمن . ولنشرح:
كانت فرنسا من 26 مايو/أيار 1926 إلى 21 سبتمبر/أيلول ،1943 الناخب الأوّل، إذ عيّنت خمسة رؤساء في تسع ولايات لأنّ التجديد لبعضهم كان يمنحهم أكثر من ولاية رئاسيّة متقطّعة أو غير مكتملة . برز في هذه الحقبة ضبّاط فرنسيون هندسوا الموقع ورعوا شاغله وأبرزهم الجنرال كاترو والجنرال دانتز وquot;غوروquot; وquot;فوشquot; وquot;ديغولquot; وغيرهم من الأسماء العسكرية التي وإن خرجت من لبنان بعد نيل الاستقلال، لكنّ لوحاتها ما زالت مرفوعة على الجادات وزوايا الساحات في لبنان .
وجاءت المرحلة الثانية بين 21 سبتمبر/أيلول 1943 و23 سبتمبر/أيلول 1958 وكانت فيها بريطانيا الناخب الأوّل الذي أوصل رئيسين إلى رأس السلطة في لبنان وبرز فيها اسم الجنرال سبيرز . وبعدها برزت المرحلة الأميركية التي بدأت في 23 سبتمبر/أيلول 1958 وهي مستمرّة حتّى اليوم . تبرز فيها الولايات المتّحدة ناخباً لعشرة رؤساء في جمهورية لبنان الديمقراطية، خلافاً لما يورده الإعلاميون من أنّها مرحلة متقطعة بدول أخرى وإرادات خارجية كثيرة . صحيح أنّ فرنسا والفاتيكان ومصر والسعودية وquot;إسرائيلquot; وسوريا وقطر وإيران والأردن وغيرها من الدول قد شاركت أو تقاسمت مع أميركا، بشكلٍ أو بآخر، مسألة اختيار هؤلاء خلال هذه الفترة الطويلة من تاريخ صناعة الرؤساء في لبنان، وصحيح أنّ تجاذباً معلناً أو تشاركاً مبهماً أو توكيلاً متقناً كان يجري بين أميركا وهذه الدول مجتمعة أو منفردةً فيرسّخها مؤقّتة أو راسخة في ملعب اختيار رئيس لبنان، لكنّ الأصحّ أنّنا كنّا وما زلنا نجد أو نراكم أطرافاً أخرى وقوى متعدّدة لبنانية تتبارز فتشلّ الاستحقاق فيتمّ تأجيله أو تمديده ريثما يحل سرّ التفاهم من الخارج . قد ينزّه الكثر ولاية الرئيس الأوحد سليمان فرنجية الجدّ( 1970- 1976) من أيّ تدخّل خارجي، لكنّهم يغفلون بأنّ بناء العمارة السياسية التي أشادها فرنجية كانت دمشقية أثناء إقامته القسرية هناك قبل أن ينتقل إلى لاعب سياسي ثمّ رئيساً للجمهورية .
2- لأنّ ظاهرة الصمت البليغ تقوى جدّاً قبل وأثناء وصول أيّ قائد للجيش إلى القصر الرئاسي، وهي قد تصل إلى حدود الحذر وتوخّي الإعلاميين ومخاطرهم ومطبّاتهم في لبنان بلد ال Media state . هذا أمر طبيعي تقرّه الثقافة العسكرية، لكنّه يبرز التعقيدات في السلطات بين السلوكين العسكري والمدني . وعلى الرغم من أنّ لبنان عرف أربعة رؤساء جمهوريات خرجوا من قيادة الجيش نحو البرلمان فالقصر الرئاسي، إلاّ أن مخطوطاتنا لم تظفر بأيّة مقابلة مباشرة مع أي قائد عسكري وصل إلى الرئاسة، باستثناء بعض المقابلات مع مرجعيات عسكرية لم تفصح عن أسمائها أو مقابلات كثيرة أخرى كان طلاّبنا يجرونها سرّاً مع الجنرال ميشال عون أثناء المرحلة الانتقالية التي شغل فيها كرسي بعبدا قبل أن يتمّ نفيه قسراً إلى فرنسا .
3- لأنّ ظاهرة لافتة لتاريخ رئاسة الجمهورية تضعنا أمام نهايات غير سعيدة صاحبت العهود الأربعة التي تبوّأ فيها قائد الجيش رئاسة الجمهورية . فالرئيس العماد فؤاد شهاب الذي دمغ رئاسة الجمهورية والسلطات والإدارة اللبنانية بملامح الإصلاح ومحاربة الفساد والشفافية العالية والتواضع الكبير والأحلام الوطنية عشق الصمت ورفض التجديد، وأحرق أوراقه ومذكّراته في زاوية من حديقة بيته المتواضع مسكوناً بالخيبة والصمت، والرئيس العماد إميل لحّود الذي عشق الصمت خرج تاركاً القصر في خواء قسري وعجز انتخاب البديل بعدما وقع لبنان في الحفرة التي اغتيل فيها الرئيس رفيق الحريري ووقع أيضاً في فراغ دستوري امتدّ من 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 إلى 25 مايو/أيّار 2008 وهو لم يخرج عن صمته وينطلق إلاّ بعد خروجه الصعب من بعبدا وحلول كلمة السر في انتخاب العماد ميشال سليمان الذي آلف عهده الصمت لينطلق متحرّراً بقناعات من التوفيق والحوار العسير والمتعسّر في لبنان . وقد يكون الجنرال عون الوحيد الذي خرق الصمت ومزّقه وهو في بذّته العسكرية ثمّ بعد عودته من منفاه ووصوله إلى زعامة ثاني أكبر تكتّل نيابي برلماني .
4- ولأنّه منذ مهرجان المرشّح نسيب لحود الغربي الطراز وصولاً إلى هذه الحمّى الإعلامية العاصفة بلبنان وشاشاته ومهرجاناته ومقابلاته، لم ولن يتغيّر سوى الشكل أو القشرة الخارجية المهمّة جدّاً في الثقافة الانتخابية .
ما زال الصمت والتحفّظ وبلع الألسنة وثقافة الأسرار والانتظار الأبلغ لدى الكثير من المرشّحين . أمّا الجهر فلتعبئة فراغات اللبنانيين كما للتحضير إلى فراغ جديد بانتظار امتحانات عسكرية واقتصادية وانتظار دول العالم من واشنطن إلى بكين مروراً بسوريا والشرق الأوسط .