صالح القلاب
أطلق رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، قبل بضعة أيام، تصريحاً انتقد فيه ما وصفه بأنه معايير الغرب، والمقصود تحديداً هو الولايات المتحدة، التي قال عنها إنها laquo;مزدوجة المعاييرraquo; تجاه مصر وتركيا.
والواضح أنه يأخذ على إدارة الرئيس باراك أوباما أنها وقفت ضده وضد حزبه في حين أنها وقفت مع الإخوان المسلمين أولاً ضد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وساهمت في إجباره على الاستقالة، وثانياً أنها ضغطت على المرشح الذي كان يعتبر صاحب الحظ الأوفر في الفوز وهو أحمد شفيق لحساب المرشح laquo;الإخوانيraquo; محمد مرسي الذي كانت laquo;جماعتهraquo; قد هددت بإحراق مصر كلها إنْ فاز غيره في هذه الانتخابات.
ولعل ما يؤكد أن الغرب الأوروبي عموماً والولايات المتحدة على وجه التحديد كانا مع حُكْم الإخوان المسلمين لمصر أن واشنطن قد اتخذت موقفاً واضحاً مضاداً لحركة يونيو (حزيران) ووصفتها في البدايات بأنها انقلاب عسكري ضد حكومة ديمقراطية، وأن الأوروبيين من خلال وزيرة خارجيتهم كاثرين أشتون قد اتخذوا في الحقيقة الموقف نفسه لكنهم كانوا أكثر laquo;دبلوماسيةraquo; من الأميركيين وأقلّ وضوحاً من مقاومة إدارة الرئيس باراك أوباما لما يصفه المصريون بـlaquo;الثورة الثانيةraquo; ورفضهم للإطاحة بالرئيس laquo;الإخوانيraquo; محمد مرسي.
لقد كان هذا هو واقع الحال في البدايات حيث ذهب الأميركيون إلى حدِّ التهديد بقطع المساعدات التي كانوا يقدمونها لمصر والتي في الحقيقة لا تزال موقوفة حتى الآن، لكن إدارة الرئيس باراك أوباما على لسان وزير الخارجية جون كيري ما لبثت، تحت ضغط الخوف على مصالحها في مصر والشرق الأوسط كله، أنْ قلبت للإخوان المسلمين ظهر المجن، كما يقال، ووصفتهم بأنهم اختلسوا ثورة يناير (كانون الثاني) اختلاساً عندما أخافتها تحركات النظام المصري الجديد الذي بادر إلى فتح أبواب كان أغلقها الرئيس الأسبق أنور السادات مع الاتحاد السوفياتي الذي بعد انهياره في بدايات تسعينات القرن الماضي ورثته روسيا الاتحادية.
والواضح أن الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي، أو بعض دوله على وجه الدقة، كانت تعتقد، حتى اتخذت هذا الموقف، أنَّ النظام الجديد، الذي شكل المشير عبد الفتاح السيسي واجهته الفعلية عندما كان وزيراً للدفاع وقائداً للقوات المسلحة، لن يستطيع الصمود وأن مصيره الانهيار العاجل تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية المتردية، ولكنها عندما تأكدت من عدم تخلي دول عربية مقتدرة وفاعلة في طليعتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والكويت عن هذا النظام، الذي حظي ومنذ اللحظة الأولى بالتفاف الشعب المصري حوله إنْ ليس كله فبغالبيته، بدأت تتراجع تراجعاً بطيئاً وبدأت تبتعد عن laquo;الإخوان المسلمينraquo; وإن شكلياً حتى الآن، وبدأت تعترف بالواقع المصري المستجد وإن هي استمرت بالحديث عن مخاوفها على حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات العامة!!
كان الأميركيون يعتقدون في البدايات أن هذا النظام لن يستطيع الصمود وأن الإخوان المسلمين عائدون لا محالة، لكنهم عندما شعروا بجدية المواقف العربية الآنفة الذكر، وعندما أحسوا بأنَّ مصر سوف تبتعد عنهم، إنْ في اتجاه روسيا الاتحادية وإن في اتجاه دول مجموعة laquo;البريكسraquo; المعروفة، وأنهم بالنتيجة قد يخسرون هذا البلد المحوري في هذه المرحلة التي تشهد اصطفافات دولية باتت تقترب من العودة إلى الحرب الباردة وصراع المعسكرات، بادروا إلى تغيير مواقفهم ولكن على مضض وأخذوا laquo;يغزلون ناعماًraquo; لكنهم في حقيقة الأمر ما زالوا لم يحسموا أمرهم بصورة نهائية، وما زالوا يراهنون على حلفائهم الذين وقفوا معهم ضد المدِّ الشيوعي وضد الأنظمة والاتجاهات التي كانت تُحسب على المعسكر الشرقي والمنظومة الاشتراكية ولاحقاً ضد المجموعات الإرهابية.
وحقيقة أنَّ هذا هو أحد العوامل، أما العامل الثاني الذي جعل الولايات المتحدة تعيد النظر بحساباتها بسرعة وجعلها تسعى سعياً حثيثاً لمد خيوط اقتراب وتقارب مع النظام المصري الجديد هو أنهم فوجئوا بانهيار الإخوان في مصر وانهيارهم في المنطقة كلها على أثر القرارات الجريئة التي اتخذتها بعض الدول العربية باعتبارهم حركة إرهابية مثلهم مثل laquo;القاعدةraquo; ومثل ما يسمى laquo;أصدقاء بيت المقدسraquo;، ولعل ما يمكن أخذه بعين الاعتبار في هذا المجال هو أن هذه القرارات قد شجعت حتى بعض الدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا على وضع هذه laquo;الجماعةraquo; في دائرة الشكوك والمساءلة وجعلها تدرس دراسة جدية اعتبارها تنظيماً ممنوعاً ومحرماً على الأراضي البريطانية.
لكن ورغم هذا كله ورغم أن الإخوان المسلمين قد أُلحقت بهم هزيمة استراتيجية فعلية، ورغم أنهم باتوا يعانون من أزمات تنظيمية وانشقاقات داخلية وبخاصة في الأردن ومصر، فإن كل الدلائل تشير إلى أن خيط الودِّ لم ينقطع حتى الآن بينهم وبين الولايات المتحدة وأيضا بينهم وبين بعض دول الاتحاد الأوروبي، فالواضح أن الأميركيين وبعض الأوروبيين ما زالوا ينظرون إليهم على أنهم احتياطيهم الاستراتيجي في هذه المنطقة، وبخاصة أن واشنطن ومعها بعض العواصم الأوروبية تعتبر أن الحكم في تركيا وفي تونس وفي السودان.. وأيضا في ليبيا حكم laquo;إخوانيraquo; وأنه بإمكان laquo;الإخوانraquo; في مصر الاستناد إلى هذه الأنظمة وإلى أنظمة عربية أخرى ذات ميول laquo;إخوانيةraquo; لينهضوا مجدداً وليستعيدوا حكمهم في هذه الدولة التي تعتبر، وهي كذلك محورية وأساسية في منطقة الشرق الأوسط.
ثم إن الواضح أيضا أن الولايات المتحدة لا تزال على قناعتها السابقة بأنْ ليس غير الإخوان المسلمين، إنْ في مصر وإنْ في هذه المنطقة الشرق أوسطية كلها، لديهم القدرة على مواجهة laquo;القاعدةraquo; والتنظيمات الإرهابية الأخرى، ويبدو أنَّ هذا ما يجعل laquo;الإخوانraquo; يعزفون على هذا الوتر بالقيام بأعمال العنف والإرهاب التي يقومون بها في سيناء وعلى مدى الساحة المصرية تحت عناوين وأسماء وهمية مثل laquo;أنصار بيت المقدسraquo; وlaquo;جيش الإسلامraquo; وlaquo;تنظيم أنصار الجهادraquo;، فهؤلاء - أي laquo;الإخوان المسلمونraquo; - يريدون تأكيد قناعة الأميركيين بأنهم وحدهم في هذه المنطقة الملتهبة القادرون على وضع حدٍّ لهذه المجموعات، والقادرون على إعادة الأمن والاستقرار للدولة المصرية.
وهكذا فإنَّ الإخوان المسلمين سيسعون بالتأكيد إلى تعزيز هذه القناعة الأميركية القائلة بأنهم الوحيدون القادرون على التصدي للإرهاب ومجموعاته التي غدت تتكاثر تكاثراً بكتيرياً إنْ في الشرق الأوسط وإنْ في العالم بأسره، بالتصعيد في مصر وفي الدول العربية التي اعتبرتهم إرهابيين ووضعتهم في دوائر الاستهداف والملاحقة، وهذا ما يجب أن يدركه الأميركيون وما يجب أن يفهمه العرب الذين ما زالوا يراهنون على أنَّ اقترابهم من هذه laquo;الجماعةraquo; واحتضانهم لها سوف يبعد عنهم شرور العنف وجرائم الشراذم الإرهابية.
وهنا فإنه لا بد من إدراك أن حركة التاريخ لا يمكن أن تقف عند لحظة معينة، وأنه من قبيل بؤس التقدير النظر إلى الإخوان المسلمين بأفق أربعينات وخمسينات وستينات.. وحتى تسعينات القرن الماضي، فهؤلاء هم من فرَّخ كل هذه المجموعات الإرهابية وهؤلاء، على خلاف ما يقوله الأميركيون، لم يثبتوا ولا في أي يوم من الأيام أنهم عدو الإرهاب وبديله.. والدليل على هذا أنهم ما زالوا يتجنبون توجيه أي إدانة لـlaquo;القاعدةraquo; وأعمال laquo;القاعدةraquo; وأنهم حتى الآن على علاقات، بعضها علني والآخر سرّي، مع إيران ومع حزب الله إن من خلال حركة laquo;حماسraquo; وإنْ بصورة مباشرة، ولذلك فإنه على الأميركيين أن يدركوا أنَّ مراهناتهم على laquo;الإخوانraquo; وعلى كل مجموعات وتنظيمات الإسلام السياسي هي مراهنات فاشلة.. وأن البديل هو القوى الديمقراطية الصاعدة.
لقد كان الأميركيون يعتقدون أنه بالإمكان تعميم تجربة حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب إردوغان في هذه المنطقة كلها، وهم كانوا يعتقدون أيضا أنَّ الجماعة المؤهلة لهذا الدور من بين كل قوى وأحزاب الإسلام السياسي هي جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفي الأردن وتونس وليبيا وفي دول عربية وإسلامية أخرى، لكنهم بعد قيام رئيس الوزراء التركي بما يعتبرونه بهلوانيات سياسية كالاشتباك الكلامي الشهير مع الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس فإنهم أخذوا يتجهون نحو هذه laquo;الجماعة الإخوانيةraquo; التي ثبت أنها غير مؤهلة للحكم وأنها رغم عمرها الطويل لا تزال لا تتقن إلاَّ الهدم وأنها غير قادرة على البناء.
وهذا يعني أنه على الولايات المتحدة أن تعيد النظر بكل مواقفها السابقة التي يبدو أنها مستمرة حتى الآن، وأنه عليها أن تدرك أن مواصلة الرهان على الإخوان المسلمين هو كمواصلة الرهان على حصان خاسر، فهؤلاء لم يترددوا في عضِّ كل الأيدي التي تقدمت إليهم بإحسان واستهداف كل الدول التي فتحت أبوابها أمامهم وآوت قياداتهم في مراحل عسرتهم وبخاصة في مصر وسوريا، وفي مقدمة هذه الدول المملكة العربية السعودية والأردن ودولة الإمارات.. وهذا سيتكرر مع الأميركيين بالتأكيد إنْ هم بقوا يراهنون على هذه الجماعة.. والمثل يقول: laquo;إنَّ المُجرّب لا يجربraquo;.