محمد فهد الحارثي
يراقب كثيرون حال الدول العربية التي مرت بالثورات، وكيف آلت الأمور فيها بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على سقوط الأنظمة السابقة. وما زالت تثير جدلا حتى التسمية انقسم عليها المراقبون، فالبعض يصفها بالربيع العربي، في حين يرى آخرون أنها خريف ودمار للدول العربية.
وبقدر ما تثيره التجربة من تساؤلات، إلا أنه ليس من الإنصاف أن نجمع الدول كلها في سلة واحدة. فعند المقارنة بين تونس وليبيا، ورغم أنهما دولتان متجاورتان، إلا أن النتائج تعكس تباينا كبيرا.
فتونس يبدو أنها تحقق نجاحات، من خلال إقرار الدستور وتشكيل حكومة من المستقلين، فيما تعاني ليبيا من تراجع كبير في الأمن والأداء الحكومي، وتعثر لجنة الستين المكلفة بإعداد الدستور، والتي عقدت أول اجتماعاتها الاثنين الماضي في غياب بعض أعضائها، ووسط صراعات سياسية محتدمة بين مكونات الطيف السياسي الليبي.
وفي حين مرت الثورة التونسية بصعوبات إلا أنها كانت متوقعة وتعد معقولة, حيث تقاسمت السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين المعتدلين، مما عكس نضوجا سياسيا. ورغم كل الخلافات فإن كيان الدولة متماسك، والحراك السياسي قوي، والتفاعل كان ملموسا. وكان هناك تفاهم حول الحريات العامة، وحول العلاقة بين الدولة والدين وحقوق المرأة.
وشهد السجال بين الإسلاميين والعلمانيين جدلا قويا، وفي بعض الأحايين تجريحا وحملات تشكيك وتحريض، وأدى إلى حدوث توترات سياسية، ولكن الكيان السياسي المؤسسي قائم ومتماسك، واستوعب حدة الخلافات.
واتضح دور الشعب التونسي، الذي يعد أكثر الشعوب العربية تعليما وانفتاحا، وهذا كان بمثابة صمام أمان لحماية كيان الدولة وعدم تعريضها لانهيارات كبيرة.
والخطوة المهمة التي تحسب للساسة التونسيين والشعب التونسي، هي إقرار مشروع الدستور الجديد بعد أن أيدته غالبية المجلس الوطني التأسيسي، وتشكيل حكومة انتقالية توافقية، واعتبر إقرار الدستور الجديد نجاحا للثورة وللمجتمع التونسي.
ويحسب لمعدي الدستور قدرتهم على ترسيخ مكاسب ترتبط بتبني الدولة المدنية وحقوق المرأة، وفي نفس الوقت أكد الهوية الإسلامية للمجتمع التونسي، ونتج عنه تشكيل حكومة مستقلين حلت مكان الحكومة السابقة التي كانت تقودها حركة النهضة.
ومن الطبيعي أن تمر الثورات بمرحلة مخاض, وتجارب التاريخ تقول إن الثورات تستغرق سنين ربما طويلة حتى تحقق أهدافها. ولكن الأهم ألا يصل ذلك إلى درجة انهيار الدولة بكاملها، وهو خطر يبدو داهما لدولة مجاورة لتونس، ولكن الأحداث تثبت أن هناك مشوارا طويلا قبل أن تثمر الثورة دولة في ليبيا الجديدة.
وتبدو ليبيا في معاناة واضحة، حتى إن رئيس الوزراء الجديد عبد الله الثني الذي تم تكليفه من المؤتمر الوطني العام، اعتذر عن تشكيل الحكومة بعد تعرضه لاعتداء مع عائلته. وكان المجلس الوطني قد أقال رئيس الوزراء السابق علي زيدان، بعد خلافات طويلة.
وليبيا التي اتضح مدى هشاشة الدولة التي تركها لها العقيد القذافي، من خلال غياب المؤسسات وضعف الكوادر السياسية، وتسيد النظام القبلي والمناطقي على المواطنة. ومن الصعب أن يلقى اللوم على السياسيين الحاليين، فهم ورثوا تركة صعبة ووضعا مأزوما، كان مغلفا بديكتاتورية بشعة جعلت شخصا واحدا هو الزعيم الأوحد، واختزل كيان الدولة وهويتها في شخص القائد فقط.
ويدين كثير من التونسيين للرئيس الحبيب بورقيبة، الذي استطاع أن يبني دولة بمؤسسات وطور نظام التعليم ورسخ الانفتاح، مما جعل الشعب التونسي سابقا لغيره في معدلات التنمية البشرية في المنطقة.
أما الليبيون فيحملون زعيمهم السابق مسؤولية الدمار والتشتت في الدولة الليبية. فالتغيير في الشعوب ليس قرارا بين ليلة وضحاها، بل هو تراكمات يصوغها النظام، من خلال التعليم والإعلام والبنية السياسية للدولة.
ورغم الهزات الضخمة التي تعرضت لها تونس، فإن البنية الموجودة في الدولة ومستوى الثقافة والوعي في الشعب التونسي، كان هو الرهان الذي حمى الدولة.
وليبيا اليوم تعاني من انفلات أمني ومسلسل الاختطافات مستمر، وهيبة الدولة مفقودة، حيث أصبحت الميليشيات والعصابات تهدد حتى رأس الحكومة وتعتدي عليه.. وإلا كيف يختطف رئيس وزراء دولة من غرفة نومه، وبعد مفاوضات يتم الإفراج عنه؟!
فبدلا من أن ينتقل الليبيون إلى الحرية والأمان ودولة القانون وحكم الدستور، تعود بهم تلك الميليشيات إلى مرحلة ما قبل الدولة. وكأن التضحيات التي بذلت للتخلص من النظام السابق، لم يذهب ضحيتها آلاف من الشباب الذي خرج إلى الشوارع من أجل حلم يحقق لهم كرامتهم.
الثورات مسلسل طويل حتى تؤتي نتاجها، ولكنها تفشل عندما لا تحقق تلك النتائج. إزالة النظام الديكتاتوري خطوة أولى تتبعها خطوات، والخطورة في مرحلة ما بعد الثورة، هي انعدام القيادات واختلاف الأهداف. وفي الحالة الليبية واضح اختلاف الأهداف، والتباين الكبير بين مكونات القيادات السياسية للمرحلة الجديدة.
وحينما تكون التركة الموجودة من النظام السابق ثقيلة، والثقافة السياسية معدومة لأنها كانت تتمثل في شخص الزعيم، تكون عملية البناء أصعب. بينما في الحالة التونسية، ورغم أخطاء النظام السابق، إلا أن المستوى التعليمي والانفتاح الثقافي للمجتمع، ساعد الساسة في تبني الدستور الجديد وفي الحفاظ على مكونات الدولة.
الليبيون يواجهون الخيارات الصعبة، وهم يدفعون ثمن الإرث البائس من دولة الديكتاتورية والطغيان. والبذور التي تركها النظام السابق من تفتيت الدولة في مناطق وتعزيز العصبيات المناطقية والقبلية، يحصد ضريبتها الآن الشعب الليبي بأكمله. ولجنة الستين التي تشكلت بانتخابات من الشعب الليبي، مطالبة بأن تلعب الدور القيادي، خاصة في ظل ضعف المجلس الوطني وحدة الاستقطابات السياسية والأيديولوجية داخله.
الدرس الذي تختصره التجربتان التونسية والليبية، هو أن التغيير ليس في الأنظمة، فإسقاط الأنظمة هو العتبة الأولى في مسلسل بناء الدولة الجديدة.
وأن الرهان هو على تطوير التعليم وبناء مؤسسات المجتمع المدني، وترسيخ الانفتاح الاجتماعي والإعلامي، لأن الشعوب هي الحامية لحقوقها ودولتها. ومن المبكر الحكم على فشل الأنظمة الجديدة، فهي في مشوار طويل والتعثر متوقع في طريق البناء, وكما يقال فالفشل هو مجموعة التجارب التي تسبق النجاح.