محمد السماك

اعتقد العالم أن الكوارث التي حلت بالإنسانية من جراء الحرب العالمية الأولى كانت كافية لتجنب الوقوع في حرب عالمية ثانية. ولكن تلك الحرب انفجرت قبل أن تجف دماء أكثر من عشرة ملايين ضحية سقطوا في الحرب الأولى. لقد كانت سنوات ما قبل تلك الحرب بمثابة laquo;العصر الذهبيraquo; لأوروبا. ذلك أنه منذ معركة واترلو -التي انتهت بهزيمة نابليون بونابرت- عرفت القارة استقراراً سياسياً وازدهاراً اقتصادياً. وشهدت قفزة كبيرة في التقدم العلمي والتقني شملت الطب والمواصلات والاتصالات. ولم يكن أحد من أهل السياسة يفكر بالحرب. ولكن كان هناك آخرون يعملون عليها ويعدون الخطط لها بمعزل عن أهل السياسة. ففي ذلك الوقت ابتدع تعبير laquo;الحرب الوقائيةraquo;، فكانت الحرب التي أجهزت على السلام.

وتقول المؤرخة البريطانية مارجريت ماكميلان في كتابها laquo;الطريق إلى 1914raquo; إن الحرب كانت ثمرة اختيارات أفراد، وإن الذين تولوا قيادة أوروبا في ذلك الوقت اتخذوا قرارات خاطئة، من قيصر روسيا إلى قيصر ألمانيا. وتؤكد المؤرخة أن laquo;أحداً من قادة أوروبا لم يكن يجرؤ أو يحاول أن يتصدى لعملية الاستعدادات العسكرية التي كان يقوم بها جنرالات يتطلعون إلى الشهرة، حتى إن هؤلاء الجنرالات لم يكونوا يستشيرون رؤساءهم المدنيين أو يطلعونهم على الحشد العسكري الذي كانوا يعدونهraquo;.

واليوم يسود الاعتقاد بأن كوارث الحرب العالمية الثانية، والتي توجت بكارثة القنبلتين النوويتين الأميركيتين على هيروشيما وناكازاكي في اليابان، تكفي لتجنب الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة، وخاصة أن السلاح النووي متوفر بكثرة لدى العديد من الدول كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند وباكستان وإسرائيل. كما أن هذه الدول تملك شبكات من الصواريخ والطائرات والغواصات القادرة على حمل قنابلها النووية إلى أي مكان من العالم.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه عشية الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى هو: هل تعلّمت دول العالم من الدروس السابقة فعلاً؟

لقد استبعد المفكرون السياسيون وقوع الحرب العالمية الأولى. وبنوا استنتاجاتهم على أساس الازدهار الاقتصادي الذي كان يشمل الدول الأوروبية، والذي كان قائماً على التبادل التجاري الواسع بين هذه الدول وخاصة بين ألمانيا وبريطانيا. وفي ذلك الوقت انتشرت النظرية التي تقول إن الاقتصاد الناجح لا يمكن أن يلقي بنفسه في تهلكة الحرب المدمرة.

ويتردد هذا المنطق التحليلي اليوم أيضاً من خلال شبكة العلاقات الاقتصادية الواسعة. ولكن هذا المنطق الذي لم تثبت صحته قبل مئة عام بدليل انفجار الحرب العالمية الأولى، هل تثبت صحته اليوم؟ لقد أدى حادث عابر في مدينة سيراييفو (عاصمة البوسنة اليوم) إلى انفجار حرب أدت إلى مقتل الملايين التسعة من البشر. فأي حادث laquo;عابرraquo; يمكن أن يشكل اليوم خطراً على السلام العالمي؟

لقد تمكنت أوروبا بمعجزة من الانكفاء عن الحرب في عام 1912-1913 بسبب أزمة البلقان.

غير أن هذه المنطقة بالذات التي انطلقت منها الرصاصة الأولى في الحرب العالمية الأولى، لا تزال حتى اليوم وعلى رغم تداعيات تمزق الاتحاد اليوغسلافي وما رافقها من حروب أهلية دينية وعنصرية، تشكل قنبلة موقوتة تهدد الأمن الأوروبي، وتالياً الأمن العالمي.

وفي الواقع هناك قنابل موقوتة عديدة أخرى قابلة للانفجار في أي وقت:

أولاً: كوريا الشمالية التي تملك صواريخ بعيدة المدى وقنابل نووية هي أبعد ما تكون عن الاستقرار.

فماذا لو انفجرت من الداخل؟ ماذا يكون مصير هذه الأسلحة؟ وإلى أية أيدٍ ستنتقل؟ ووفق أي معادلات؟ وماذا يكون مصير كوريا الجنوبية التي لا تزال القوات الأميركية متمركزة فيها منذ الحرب الكورية في عام 1950؟

ثانياً: الهند التي تملك أيضاً قنابل نووية وصواريخ بعيدة المدى، سيؤول الحكم فيها من حزب المؤتمر المعتدل الذي أسسه نهرو، إلى الحزب الهندوسي المتطرف بزعامة ناريندرا مودي المتهم بارتكاب مجازر ضد المسلمين.

فكيف ستكون علاقاته مع باكستان التي تملك هي الأخرى ترسانة نووية- صاروخية مماثلة؟ إن قضية كشمير لا تزال تشكل نقطة تماس بين الهند وباكستان تماماً كما كانت قضية الألزاس واللورين بين فرنسا وألمانيا.

ثالثاً: تصر الصين على بسط سيادتها على الجزر الصخرية في بحر الصين التي تعتبرها اليابان جزءاً من أرضها الوطنية. وتطالب بالسيادة على هذه الجزر دول عديدة أخرى في شرق آسيا (الفلبين- إندونيسيا- ماليزيا- بروناي- كوريا) وكل هذه الدول وخاصة الصين واليابان متعطشة لمصادر الطاقة (النفط والغاز) التي ثبت من خلال المسح السيسموغرافي توافرها في المياه الإقليمية للجزر الصخرية -غير المأهولة.

في الحرب العالمية الأولى نقل عن الرئيس الفرنسي كليمنصو قوله: laquo;إن نقطة من النفط تعادل نقطة من دم الجندي الفرنسيraquo;. فلا حرب من دون توفر الطاقة، ولذلك فإن الحرب قد تنشب من أجل امتلاك مصادر الطاقة والسيطرة عليها.

وإضافة إلى ذلك كله هناك ألغام عديدة أخرى مزروعة في أعالي البحار يمكن أن تصطدم بقضية ما لتفجر ما لا يريد أحد أن يفجره! ومن هذه الألغام الخلاف على استثمار الثروات الطبيعية في القطب الشمالي ومن أهمها النفط.. وطرق الملاحة البحرية عبر القارات.

ومنها أيضاً تضارب طموحات الدول (التي انتقلت من طور النمو إلى طور القوى الاقتصادية الكبرى مثل الهند والصين والبرازيل وإندونيسيا) مع الدول الكبرى التي تستقطب السياسة العالمية منذ انتهاء الحرب الباردة وقبلها. ومنها أيضاً اتساع مساحة الإرهاب في العالم. فبدلاً من الاتفاق على استراتيجية دولية لمكافحته، يخضع الإرهاب لتوظيف استثماري في إطار لعبة الأمم.

لقد حدث ذلك من قبل في أفغانستان وفي العديد من دول أميركا الجنوبية والوسطى، وهو يحدث اليوم في أفريقيا والشرق الأوسط! ومنها كذلك التغيير المناخي وما يترتب عليه من آثار اقتصادية واجتماعية تحمل الملايين من البشر على الهجرة إلى دول ليست مستعدة لاستقبالهم أو ليست قادرة على استيعابهم.

لقد أدت الحرب العالمية الأولى إلى وقوع ثلاث كوارث سياسية دفعت الإنسانية ثمنها غالياً فيما بعد، ولا تزال تدفع أيضاً. الكارثة الأولى هي قيام الاتحاد السوفييتي بنظامه الشيوعي، ولم ينته هذا النظام إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. والحرب الباردة التي أعقبتها، حيث استعادت أوروبا الشرقية حريتها، وتفكك الاتحاد السوفييتي إلى عدة دول.

والكارثة الثانية هي قيام النازية وبروز هتلر كرمز لها لينتقم لألمانيا من المذلة التي ألحقت بها في نهاية الحرب العالمية الأولى في مؤتمر فرساي عام 1919. ولم تنته النازية إلا بعد الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى تدمير ألمانيا وإلى فرض حظر على تسلحها.

أما الكارثة الثالثة فكان العالم العربي مسرحاً لها. ولا يزال حتى اليوم ضحية لها. وهي تتمثل في منع قيام الدولة العربية الواحدة، وفي التقاسم البريطاني- الفرنسي (سايكس- بيكو) الهيمنة على هذا العالم بعد رسم حدود لدوله في إطار مصالح الطرفين المتحالفين! وبدلاً من إنهاء مفاعيل تلك الجريمة والقضاء عليها، فإن الحرب العالمية الثانية لم تغير في نتائجها من هذا الواقع التقسيمي.

فالعالم العربي يواجه اليوم خطراً أشد هولاً وهو تقسيم المقسم من دوله وتجزئة المجزء من شعوبه.

وفتح العالم العربي عينيه على كيان جديد غُرس في قلبه تعويضاً لليهود عن المآسي التي لحقت بهم في أوروبا.. فقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق، وذلك على أساس القاعدة العامة التي تقول إن المال السائب يعلم الناس الحرام!