محمد الصياد

ما بين مقال كاتب العمود في صحيفة ال quot;غارديانquot; البريطانية أوين جونز Owen Jones المنشور في نفس الصحيفة بتاريخ 24 مارس/ آذار 2014 الموسوم quot;ليبيا الكارثة التي ساعدنا في خلقها . . ليس بمقدورنا البقاء صامتينquot;، وبين أفواج التونسيين الذين توافدوا زرافات على مزار الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة في الذكرى الرابعة عشرة لوفاته (في 6 أبريل/نيسان 2014) . . هناك رابط حتى لو كان رفيعاً وبحاجة لمنهج الاستدلال لإسعاف حجيته المجردة من القراءات الرغائبية السطحية .


في تونس، كما في ليبيا، جرت أحداث عظيمة مع مطلع عام ،2011 أُطيح على إثرها النظامان السياسيان الحاكمان . نظام زين العابدين بن علي في تونس ونظام معمر القذافي في ليبيا، وذلك في تمرد وانتفاض شبابي عربي غير مسبوق على القديم وصنويه الرديفين الطبيعيين: الاستبداد والفساد . فكان التهليل كاسحاً بالمستجد المذهل في تونس حتى أغدقت عليه الألقاب والأوصاف على طريقة حفاوة استقبال البحتري للربيع (أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً . . من الحسن حتى كاد أن يتكلما) .


ولسنا بحاجة للتذكير كيف استهوت quot;تعويذة الربيع العربيquot; جموع الشباب في غير بلد عربي وعملوا على استعارة ونقل نموذجها، بهدف وضع حد لبنى الاستبداد والفساد، ونتائج الحصاد التي انتهت إليه تطبيقاته .
واليوم حين يتفحص المراقب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في كل من ليبيا وتونس، سيجد في الأولى اقتصاداً وحالة مجتمع هما أقرب إلى حالة الدولة المتشردة، وسيجد في الثانية اقتصاد دولة على حافة الإفلاس مرشحة اجتماعياً، بكل قوة، quot;للتأهل لدور الدولة الفاشلةquot; Failed State .


في الحالة الليبية التي اختارها الكاتب المنصف quot;أوين جونزquot; لتكون رمزاً لجريمة الفوضى الهدامة التي اقترفها حلف شمال الأطلسي quot;الناتوquot; وطلائعه من الأمريكيين والأوروبيين الغربيين في المنطقة العربية، بحرف مسار الغضب الشعبي ضد ثنائية الاستبداد والفساد، باتجاه كيانات الدولة العربية ومؤسساتها وبناها التحتية، بهدف استغلال واستثمار ما بعد جحيم الحروب التدميرية . فبعد أن يستعرض الكاتب مشاهد ووقائع أهوال انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها مليشيات مسلحة ذات خلفيات إسلامية متطرفة في معظمها، ومنها وجود 15 مليون بندقية آلية بخلاف السلاح المتوسط والثقيل، وتسبب فقدان السيطرة على هذا المخزون الضخم من السلاح في تغذية الفوضى في 14 بلداً مجاوراً بما فيها الصومال، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ونيجيريا والنيجر، وقيام الدولة الليبية بدفع 1000 دولار شهرياً ل 160 ألفاً من أفراد العصابات المسلحة طمعاً في إدماجها في أجهزة الدولة، واقتراب البلاد من الحرب الأهلية مع تصاعد احتمالات تفكك أقاليمها بعد هذا الاستعراض يعيد الكاتب إلى الأذهان العبارات الاستعمارية التي رددها كولن باول وزير الخارجية الأمريكية الذي اشتُهر بروايته المفبركة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، في حضرة رئيسه جورج دبليو بوش وهي: quot;سوف تكون المالك المفتخِر (بكسر الخاء) ل 25 مليون إنسان . . سوف تمتلك آمالهم وأحلامهم ومشكلاتهمquot; . ويتساءل جونز quot;أين هم الصحافيون الغربيون اليوم وهم يرون الكارثة التي خلفها التدخل العسكري الغربي في ليبيا . لماذا هم صامتون؟quot; .


أما في الحالة التونسية فنحن أمام دولة هي اليوم، ولأول مرة في تاريخها، على حافة الإفلاس، والتي من علائمها اضطرار حكومتها التي يرأسها مهدي بن جمعة للاقتراض من القطاع الخاص المحلي 222 مليون دولار لدفع أجور موظفيها لشهر أبريل/ نيسان الجاري . ومع ذلك يبقى هذا الوضع الاقتصادي/ الاجتماعي الهش، أقل وطأة من الوضع الذي انتهت إليه الحالة quot;الثورويةquot; الليبية . ولعل ما جنَّب تونس كابوس السيناريوهات العراقية والليبية والسورية، وجود قوة ثالثة هي النقابات العمالية متمثلة في الاتحاد التونسي للشغل الذي استخدم قوته الناعمة في معركة كسر العظم بين الإخوان ممثلين في حزب النهضة الذي اختطف السلطة، تماماً كما حدث في مصر، وبين قوى الدولة المدنية التونسية، بما أفضى إلى استسلام وقبول إخوان تونس بصفقة إنقاذ تونس من المصير الذي تردت إليه جارتها ليبيا .


وهذا مدعاة بحد ذاته للتفكر والتأمل . فحسبنا أن صعوبة ومخاطر المخاض الذي تكابده تونس في مرحلتها الانتقالية، من quot;المعلومquot; إلى quot;المجهولquot;، بما تجسده علائمه المادية البائنة والمفزعة، من انفتاح على كل الاحتمالات، ربما تفسر تلكم الظاهرة اللافتة لتقاطر التونسيين وتوافدهم من كل أنحاء البلاد على مدينة المنستير، المدينة التي ولد فيها الحبيب بورقيبة زعيم الاستقلال الوطني وباني تونس الحديثة، والتي أمر هو شخصياً بأن يُبنى فيها قبره لكي يدفن فيه بعد مماته . وقد حرص معماريو هذا المعلم على أن يصير مزاراً يخلد ذكرى الرجل الذي لا يختلف اثنان على جهوده المقدامة في الارتقاء بمكانة المرأة التونسية وترقية الطبقة الوسطى التونسية والنهوض بالتعليم . ولذلك فبعد زوال نظام بن علي الذي أطاح الرئيس بورقيبة في انقلاب أبيض ووضعه تحت الإقامة الجبرية ومنع زيارة قبره، بل وحتى بث مراسم دفنه، سارع مريدوه، ومنهم مساجين قدماء من اليساريين والديمقراطيين، لزيارة قبر زعيمهم الراحل لإظهار بعض الامتنان والتقدير لإنجازاته .