عمار علي حسن

لا يبدو أن ما بين الإعلام والدين والثقافة من اتصال أمر خفي على أحد، سواء العابر السريع أو المتأمل المقيم، فقد بنت هذه المسارات الثلاثة عبر تاريخ طويل علاقة من التفاعل القوي، ترسخت أكثر مع ثورة الاتصالات واقتصادات المعرفة، التي حولت العالم بأسره إلى laquo;غرفةraquo; صغيرة، تزخر بسجال ثقافي بمعناه الواسع حول القيم والتصورات والإدراكات وطرائق العيش والمعارف الذاتية المتبادلة، وسجال عقائدي، زادت حدته مع وسائل الإعلام الجديد، وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا تكف عن البث، بلا هوادة، وفي كل الاتجاهات.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: أي صيغة من العلاقة يمكن أن نجدها بين هذه المسارات، أو الحقول الإنسانية سواء على مستوى التفكير والتنظير أو بالنسبة للتطبيق والممارسة؟

والإجابة عن هذا التساؤل تحتاج ابتداءً فحص كل مسار أو حقل منها على حدة، توطئة لاكتشاف العلاقة أو التأثير المتبادل بينها. وهنا نحتاج إلى ما يلي:

أ- التفرقة بين الدين والتدين وعلوم الدين، باعتبار الأول هو النص في تجليه الإلهي، أو laquo;الوحيraquo; كما أُنزل. والثاني هو الطريقة التي تفاعل بها البشر مع الدين، وهي إما أن تكون قد حافظت عليه في مقصده الرئيس الرامي إلى الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والنفع العام بشقيه المعنوي والمادي، أو ابتعدت به عن جوهره ومقصده ليصير laquo;أيديولوجيةraquo; عند من يتخذون من الدين إطاراً للعمل السياسي والتنافس على السلطة، أو تجارة عند أولئك الذين تكسبوا من الأديان بدءاً من الكهنة أمام المعابد الفرعونية القديمة وحتى مشايخ الفضائيات، وما بينها من أشكال لا حصر لها من التربح بإنتاج الخطاب الديني، وكذلك أساطير عند من أفرطوا في أسْطرة التاريخ الديني أو بالغوا في إضفاء الكرامة على القديسين والأولياء، أو حولوا الدين إلى عُصاب نفسي حين سعوا إلى إيجاد مبرر ديني لعوارهم النفسي سواء المكبوت أو المفرج عنه في سلوك معين، وهناك كذلك ما يحوله إلى ثقافة سائدة تتماهى مع ما هو متعارف عليه بين مختلف الجماعات البشرية. أما علوم الدين فهي ما تم إنتاجه على ضفاف laquo;النص الإلهيraquo; من تفسيرات وتأويلات وفقه وفلسفة وتشريعات ورقائق ومأثورات، وهي منتج بشري لا قداسة له في الحقيقة، وإن كان البعض يقدسه حتى لو لم يعلنوا هذا صراحة.

ب - هناك خلاف بين مفهوم الثقافة في حقيقته وطبيعته وحسب ما انتهى إليه العديد من الرؤى والتصورات العلمية وبين المعنى المتداول على ألسنة العوام ووفق أفهامهم. فقديماً وصفوا المثقف بأنه من laquo;يقطف من كل بستان زهرةraquo; قاصدين بالطبع بساتين المعرفة، وحديثاً أجملوا الثقافة في أنها laquo;الكل المعقد من المعارف والأفكار والآداب والفنونraquo; وهناك من طلب إخراجها من حيز العلوم الإنسانية، لاسيما الآداب والفنون، لتمتد إلى العلوم الطبيعية، بحيث يحمل علماؤها لقب laquo;مثقفraquo; أيضاً. ويوجد من جعل الثقافة أبعد من هذا لأنها تعني laquo;طريقة العيشraquo; وبالتالي فكل إنسان على سطح الأرض يعد مثقفاً، اتكاء على أسلوب حياته. وهناك من يمدها أكثر لتصير هي الحضارة، ليس فقط في شقها الرمزي والمعنوي، بل في المادي أيضاً.

ج- هناك من يضيق مفهوم الإعلام ووسائله ليحصرها فيما نعرفه الآن في زماننا من وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية، ثم يضيف الإعلام الإلكتروني، وهناك من يتوسع بالمفهوم ليذهب إلى كل أشكال الإخبار الحديثة والعصرية والتقليدية، التي عاشت البشرية عليها ردحاً طويلاً من الزمن.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نفكر في علاقة الإعلام بالدين والثقافة، بكيفية أوسع وأبعد من أغلب ما هو سائد أو متداول في السوق البحثية والصحفية، الذي ينظر إلى المسألة إجمالاً، خالطاً بين الدين وطرائق التعامل معه وفهمه، وبين الثقافة والحضارة، وكذلك بين ما هو حقيقي فيها وهو ما هو محض مزاعم وادعاءات، وافتراءات أيضاً.

وهنا يمكن أن نرى أن تلك العلاقة تقوم بالأساس على laquo;تبادل المنافعraquo; أو laquo;الاعتماد المتبادلraquo; بغض النظر عما هو أصيل فيها وما هو فرعي، أو بين ما هو خادم وما هو مخدوم. ويمكن أن أبين هذا في النقاط التالية:

1- ينظر إلى الإعلام في الغالب الأعم على أنه مجرد أداة أو وسيلة أو قنطرة واصلة بين منتج رسالة وبين متلقيها، وبالتالي يكون laquo;الدينraquo; نصاً وخطاباً وممارسة، والثقافة بمختلف ألوانها، بمنزلة المضمون لهذه الرسالة، مع مضامين أخرى عديدة. لكن الإعلام لا يقف عند حد النقل بل تفرز آلياته الذاتية مضامينها عبر علامات وشفرات ووسائل تأثير عديدة، بما يجعل بوسعه أن يتعدى مجرد المرآة العاكسة للأمور الدينية والثقافية ويزيد على كونه الجسر الرابط بين علماء الدين والمثقفين وبين الجمهور العام الذي يتابع ما ينتجونه، ويحدد من خلاله، وغبر محتويات أخرى، تصوره عن الذات والعالم والكون، في المستوى الأساسي والعام، إلى جانب تفاصيل عديدة متعلقة بالمعارف والقيم والاتجاهات.

2- يتم التعامل مع الدين والثقافة والأعلام أيضاً، كأداة ومحتوى في الوقت نفسه، بوصفها من laquo;البنى الفوقيةraquo; للمجتمع التي تتأثر بـlaquo;البنى التحتيةraquo; المتمثلة في الأشياء المادية، وذلك وفق النظرية الماركسية. لكن في نظري فإن الدين والثقافة يتعدى دورهما مجرد التبعية التامة للظروف والأحوال الاقتصادية إلى التأثير المستقل في تطور المجتمعات الإنسانية.

3- يُنظر الدين والثقافة والإعلام بوصفها من ركائز القوة الناعمة للدولة، في مقابل ركائز القوة الصلبة أو الخشنة المتمثلة في القدرات العسكرية والإمكانات الاقتصادية والموارد الطبيعية والموقع الجغرافي وحجم السكان ونوعيتهم. وهذه القوة الناعمة تستخدم في إحداث التماسك الداخلي للدولة عبر الوظائف الرئيسية التي يؤديها الخطابان الديني والثقافي والرسالة الإعلامية في نشر القيم التي تحض على التعايش والتراحم واحترام التنوع وتفهم الخصوصيات والحريات الفردية والعامة وتعلم الاختلاف وأدب الحوار، وتعزيز القيم والاتجاهات الإيجابية، التي تحض على العمل والإبداع والتقدم. كما تستخدم في تعزيز دور الدولة على المستوى العالمي، فأي بلد يتمتع بوجود علماء دين كبار ومثقفين مبدعين بارزين وإعلام حر مهني سيجد طريقاً ممهداً للتأثير في محيطيه الإقليمي والدولي.

4- تشترك حقول الدين والثقافة والإعلام في أنها تتوسل باللغة، ليس بمستواها الذي يقف عند حد الكلام أو التعبير اللفظي فقط، بل بطرق التعبير الأخرى أو laquo;السيمائياتraquo; حيث الإشارات والإيماءات والإيحاءات والعلامات والرموز.. وتلعب اللغة دوراً كبيراً في تحديد عمق وتحقيق جاذبية الخطابات الناتجة عن هذه الحقول الثلاث.

5- شهد العقد الأخير، لاسيما في العالم العربي، اختلاط الأدوار بين عالم الدين والمثقف والإعلامي، فكثير من مقدمي البرامج تحولوا إلى واعظين أو قادة رأي، وبعض علماء الدين والمثقفين تحولوا إلى مذيعين، وتزداد هذه الظاهرة تجذراً بمرور السنوات، وتحول الإعلام إلى قوة هائلة.