صلاح سالم

يصعد المشير السيسي إلى سدة الحكم في مصر من دون خلفية سياسية، أو انتماءات إيديولوجية واضحة أو على الأقل معروفة، وفي الوقت نفسه على أرضية تأييد ساحق يكاد يمثل نوعاً من الإجماع الوطني، الأمر الذي قد يغري الرجل بالتوجه مباشرة إلى الجماهير من دون وساطة النخبة السياسية، وهو خيار ممكن، خصوصاً في المرحلة الأولى، من حكمه استناداً إلى رصيده الشعبي، وربما ظل ممكناً طالما استطاعت الدولة النهوض بمهماتها السيادية على نحو أفضل، أو تمكنت من تقديم إنجازات اقتصادية ملموسة. ولكنه خيار غير مأمون العواقب على المدى الطويل، فهو الخيار نفسه الذي كان الرئيس عبد الناصر قد مارسه غداة 23 تموز (يوليو)، تحت ضغط شكوكه العميقة في الأحزاب القائمة، والمبررة في نيات الجماعة الإخوانية، ففضل تقزيم الأولى وحظر الثانية، وتحقق له ما أراد مرحلياً، قبل أن ينهار مشروعه مع رحيله بفعل غياب الحاضنة السياسية له. ولذا استمر ناصر فكرة في ضمير البسطاء، ويافطة على واجهات أحزاب ناصرية صغيرة وممزقة وليس تجربة حية مؤطرة في أبنية سياسية حقيقية. وفضلاً عن ذلك سيترك هذا الخيار لجماعة الإخوان، الخارجة على الشرعية، مساحة أكبر للتحرك العنيف ضد الحكم، فطالما استمر احتياج الرجل للشارع إسناداً لتوجهاته، فسيتعرض لكل ما في الشارع من تيارات وضغوط. خروجاً من هذا المأزق يتوجب على الرجل أن يجيب عن سؤالين رئيسيين: بمن سيحكم؟ وباسم من سيحكم؟ ولأن حلقة ضيقة أخذت تتحلق حول الرجل من شخصيات عامة تشرف على حملته الانتخابية، يصلح بعضهم لبناء فريق رئاسي (تنفيذي) على نحو يجيب ولو باقتضاب عن السؤال الأول، يبقى السؤال الثاني هو الأهم: باسم من سيحكم؟ وهو سؤال يفرض على الرجل الاختيار بين بديلين يتوقف على كل منهما مستقبل مختلف للنظام السياسي المصري: المهمة الأولى هي التوجه نحو صياغة قاعدة لحكمه، تيار سياسي يتبنى فكره، بنية حزبية تؤيده، حضور برلماني يسند توجهاته الكبرى. باختصار بناء جبهة وطنية لحكمه على النحو الذي كان قد أثاره الأستاذ محمد حسنين هيكل، وتحدث عنه كثيرون بعده. وفي اعتقادي أنها مهمة سهلة بقدر ما هي ضارة بمستقبل مصر على المدى البعيد. إنها سهلة بفعل البنية السلطوية العميقة للمجتمع المصري، المتصحر سياسياً والمأزوم فكرياً على وجه الدقة، حيث تبدو السلطة فيه دائماً أقرب إلى لهب مضيء في مساحة مظلمة، يسير إليها الجميع ولو على غير هدى، أي على طريقة الفراشة التي تلتصق حتى تحترق، وليس على طريقة السياسة، التي تحاور وتفاوض وتساوم، وذلك بفعل ضعف تبلور التيارات الإيديولوجية والفكرية خارج فضاء الإسلام السياسي، وكذلك ضعف البناءات الحزبية غير القادرة على حشد الجماهير على نطاق واسع، حيث تبلورت الحركات الجماهيرية الكبرى تاريخياً حول الوطنية المصرية نفسها، سواء في تلك الهبات ضد الاحتلال وطلباً للاستقلال، أو في نظيرتها الرافضة للهزيمة العسكرية وطلباً للقتال ضد العدو، أو حتى في سياق تحركات ثورية على نحو ما شهدته مصر أخيراً، ولكنها، أي الحركات الجماهيرية، لم تتبلور قط في قوالب إيديولوجية أو تتصارع سياسياً من داخل الفضاء المدني. ومن ثم فما أن يجلس الرجل على كرسيه إلا وتسارعت جل التيارات المدنية إلى تقديم خدماتها إليه، وإبداء رغبتها في الانضواء تحت قيادته، ومن ثم يكون عليه فقط الاختيار من بينها لتشكيل قاعدة الحكم، وفق توجهاته وميوله الشخصية، وقدرته على قراءة المواقف والناس.

والمشكلة على هذا الصعيد أنه سيفتقد إلى جبهة معارضة مسؤولة ترشد قراراته، تعادل التيار الذي يؤيده، وتفاوض القاعدة التي يحكم بها، فالذين يرفضون السيسي، المبتعدين عن لهب السلطة، سيكونون غالباً هم المنتمون للإسلام السياسي، التيار الأقدر على الحشد بقوة الإيديولوجيا، ولكن غير الراغب في الحوار مع الرجل حول سياساته العملية، أو توجهاته الفكرية، لأنه يرفضه هو نفسه وما يمثله، كما يرفض اللحظة التي دخل فيها على الخط السياسي، حيث لا يزال الجدل يدور حوله وليس معه، حول فكرة الثورة والانقلاب، حول الماضي الذي كان لا المستقبل الذي يجب أن يكون.

وأما المهمة الثانية فهي الإشراف على عملية تاريخية بالغة الأهمية تهدف إعادة بناء نخبة سياسية (مدنية) طال افتقادها، وذلك بممارسة الحياد بين القوى القائمة كي تتمكن من إدارة صراعاتها بنفسها، وتنتظم تدريجياً في قوالب قادرة على الفعل عبر التنافس الشريف على برلمان يتبلور فيه وداخله التيار الأقدر على الحكم من خلال موقع رئاسة الوزراء الذي سيحوزه التيار الغالب في البرلمان، والتيار الأقرب إلى المعارضة داخل هذا البرلمان، فيما يكتفي هو بترشيد الصراع بين السلطة والمعارضة، باعتباره رمزاً للوطنية المصرية وقائداً للتيار المدني يضطلع بمهمة حمايته من الخارج، ضد تغول طرفين أساسيين عليه: أولهما هو التيار الديني. وثانيهما هو أجهزة الدولة الأمنية والسيادية. وهكذا يتحول الرئيس إلى موقع الحكم ليس فقط بين السلطات، ولكن بين التيارات الفكرية والبنيات الحزبية السائدة في المجتمع بغرض تكريسها ذاتياً وتبلورها موضوعياً وامتلاكها المتنامي للقدرة على التفاوض معاً داخل البرلمان، وعلى تحريك الجماهير في الشارع، تحركاً مدنياً وسلمياً، دفاعاً عن مشروعاتها وتوجهاتها حتى لا تبقى هذه القدرة رهينة للتيار الديني وحده.

ربما كانت هذه المهمة، هي الأصعب، إذ يتعين على الرجل هنا أن يبني ليس فقط جبهة للحكم، ولكن أيضاً جبهة للمعارضة، ولكنها المهمة الأبقى والأنفع على المدى الطويل، فمن دون نخبة مدنية ناضجة قادرة على ممارسة الحكم الرشيد والمعارضة المسؤولة في آن، سيبقى العطب نفسه الذي ضرب تجربة يوليو قائماً، وسيكون السيسي في أفضل الأحوال فترة هدنة تتجمد خلالها التناقضات والقصورات القائمة، قبل أن تنفجر برحيله، وربما في وجوده، ما يعني أن تظل مصر صحراء سياسية تتقلب على جنبيها بين هواجس العسكرة، ومخاوف الأسلمة، وكلتاهما جدران صد وعوائق حركة على طريق التقدم نحو الدولة المدنية جوهرياً والديموقراطية فعلياً.