محمد عبد المطلب الهوني

طالعتنا صحيفة laquo;الشرق الأوسطraquo; في عددها الصادر يوم 18 أبريل (نيسان) الحالي، بمقال للأستاذ رضوان السيد تحت عنوان laquo;الحملة على الإسلام.. والحملة على العربraquo;، يهاجم فيه كوكبة من المفكرين العرب، وهم الأساتذة جورج طرابيشي وعزيز العظمة وعبد المجيد الشرفي والمرحوم محمد أركون.

وعلى الرغم من ضعف تماسك المقال، وهو سمة مشتركة لأكثر كتّاب المقالات اليومية، فإن الاتهامات التي وردت فيه ضد هؤلاء المفكرين كانت صادمة، بسبب تضمنها وقائع مجافية للواقع. ولنتناول هذه التهم التي ساقها الكاتب في مقاله من دون أن يكلف نفسه عناء الإتيان بقرينة واحدة للبرهنة على حدوثها وإثبات صحتها.

يتهم رضوان السيد هؤلاء المفكرين بأنهم جندوا أنفسهم لهدم الإسلام السني التكفيري لمصلحة الإسلام الشيعي والانتصار للإيرانيين وحلفائهم وتنظيماتهم المسلحة، في كل من العراق وسوريا واليمن والبحرين.

إن إطلاق هذه التهم في حقيقته جريمة، أما من الناحية الفكرية فهي تدل، بافتراض حسن النيات، إما على عدم القدرة على فهم ما كتبه هؤلاء، أو تدل على محاولة ليّ عنق الحقيقة لمصلحة عاجلة، القصد منها التقرب إلى هيكل العجل الذهبي للسياسة بقرابين أسماء فذة امتنعت عن أن تشرك بوحدانية الحقيقة من أجل مغريات الأباطيل.

أما من الناحية الواقعية، فإنني أتحدى الكاتب، وعلى رؤوس الأشهاد، أن يثبت ما يقوله عن laquo;عزيز العظمةraquo; وlaquo;جورج طرابيشيraquo; وlaquo;عبد المجيد الشرفيraquo;، من أنهم انتصروا لأي طائفة ضد طائفة أخرى، أو كتبوا أو حاضروا في تمجيد الطوائف، سواء أكانت شيعية أم سنية أم خارجية، أو حتى أدلوا بحديث صحافي أو مقابلة تلفزيونية يشتمّ منها ولوغهم في مثل هذه الفعلة.

أما اتهام الراحل الكبير laquo;محمد أركونraquo;، بأنه سخّر قلمه لتحطيم الإسلام السني، فهذا ما لم يستطع قوله حتى القرضاوي. وإن قراءة محمد أركون، تحتاج إلى جد وصبر لا يمكن أن يتحققا بمجرد الاطلاع على عناوين فصول كتبه خلال فترات الاستراحة القصيرة للمؤتمرات.

ما كان يريده محمد أركون، هو تفكيك التراث، لا تحطيمه، من أجل إسلام أجمل، ومسلمين متصالحين مع عصرهم ومع تاريخهم، وبالرجوع إلى النص القرآني وينابيعه الصافية لاستنطاقه وتأويله حتى يكون لدينا فقه عصري جديد ينقذ المسلم من وضعيته التعيسة التي يعيش فيها.

إن سوريا اليوم ولبنان، معرّضان للتشظي والانقسام إلى دويلات طائفية بسبب عدم القدرة على ولوج الحداثة وعلى نبذ الطائفية. إن أركون قد رأى كل ذلك تنبؤا. أما صاحب المقال فلا يرى ذلك الواقع، على الرغم من أنه يعايشه. ثم يقول الكاتب: laquo;خرج علينا قبل الثورات وبعدها فريق تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مع تراثهم الديني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشرات من هؤلاء لاصطناع قراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والسنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج، بعد كتب ممتدة، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكانوا، في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد وبشار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضات الفظيعة التي دخل فيها الجهاديون الحزبيون فرصا جمة للإشادة من جديد بالتنوير الذي عليه الأسد وصدام قبله، وإيرانيو الخميني ونصر الله من بعدraquo;.

إنني آسف لكاتب في حجم رضوان السيد، يطلق كلاما على عواهنه بهذه الخفة المرسلة. إنني أرد عليه بمجموعة من الأسئلة عليه أن يجيب عنها بالوقائع والبراهين الدامغة:

1- متى ذهب أي من هؤلاء المفكرين إلى إيران؟ ومتى اجتمعوا بالمرشد الأعلى؟

2- متى التقى أحد هؤلاء المفكرين بمعمر القذافي أو ببشار الأسد أو صدام حسين أو حافظ الأسد؟

3- متى حصل أي من هؤلاء على جوائز من أولئك الحكام؟ وأين؟ وفي أي تاريخ؟

4- في أي مطبوعة قرأ الكاتب أن هؤلاء المفكرين أشادوا بحسن نصر الله أو حزب الله، حتى عندما كان في أعلى درجات شعبيته، ويطلقون عليه لقب laquo;سيد المقاومةraquo;؟

5- متى وأين قرأ السيد أن أحد هؤلاء الكتاب أيد مذابح بشار في سوريا أو مدح فظائع نظامه؟

أما قوله إن هؤلاء المفكرين قد كونوا فريقا يهدف إلى اجتراح إصلاح ديني كالذي حدث في أوروبا، فهو صحيح، وللكاتب كل الحق في أن ينتقد هذا المسلك ما دام يرى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

إن المفكرين التنويريين الذين قال الكاتب كل هذا في حقهم، ودبج بقلمه الكثير من الأباطيل، هم أكبر من أن ينخرطوا في حرب طائفية مقرفة لن تكون لها غير نهاية مدمرة للأوطان والمجتمعات.

من حق السيد أن يكون أحد فرسان هذه الحرب ومغاويرها، لكن ليس من حقه جر آخرين إلى خوض غمارها.

ويبقى سؤال قلق، يحوم حول هذا الكم الهائل من الادعاءات والأخبار غير الصحيحة، يبحث عن إجابة:

لماذا هذا الهجوم الشرس على مفكرين يعرفهم الكاتب حق المعرفة، ويعرف أنهم لم ولن يقوموا بما اتهمهم به، ويعرف أنهم ما كانوا في يوم من الأيام أبواقا لأحد، ولم يبذلوا ما بذلوه من جهد خوفا من وعيد أو طمعا في وعد، وحتى عندما تغيرت آراؤهم ومواقفهم من الآيديولوجيات المختلفة، كان ذلك بفعل نقد ذاتي استعملوا فيه العقول؟

إن هؤلاء المفكرين ومَن على شاكلتهم قد نأوا بأنفسهم عن دوامة الحقد والكراهية، واعتبروا أن مسؤولياتهم التاريخية الجسيمة تحتم عليهم تضميد الجراح، ورسم خارطة طريق للمستقبل بعد أن تضع هذه الحروب الطائفية أوزارها، فأمعنوا في نقد البنى الفكرية والاجتماعية السائدة من أجل بناء أوطان للأجيال المقبلة التي لن تعرف سوى دولة الإنسان المواطن.

إن التكفيريين السنة لا يقتلون أهل الأديان والنحل والملل والمذاهب الأخرى فقط، بل هم طائفة داخل الطائفة السنية، يقتلون كل من اعتبروه فاسقا أو ملحدا أو كافرا. فهنيئا لرضوان السيد والقرضاوي بهذه الصحبة الجديدة التي تخلط بين الدين والسياسة، وبين الدولة والطائفة!

عندما قرأت المقال للمرة الثانية استوقفتني كلماته الاستهلالية، وأنقلها حرفيا: laquo;لا يكاد يمر أسبوع إلا ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفالين معا: احتفال بالحملة على الإسلام المتشدد والتكفيري والإرهابي، واحتفال آخر بمفكر laquo;تنويريraquo; عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحماraquo;.

إذا علم القارئ أنه في يوم 5 من هذا الشهر، ومن هذه السنة، أقيم في تونس حفل تكريمي للمفكر العربي جورج طرابيشي، بطل العجب.

إن هذا الحفل الذي أقامه عدد من المثقفين من مختلف الأقطار العربية احتفاء بجورج طرابيشي، وعرفانا له بما بذله من جهد فكري وثقافي كتابة وترجمة ونقدا في تاريخ العرب الحديث، كان هو القادح على هذه الحملة. فربما اعتملت الغيرة في صدر laquo;صاحبناraquo;، فأخذ يخبط خبط عشواء، وطاشت أسهم حنقه غيظا، فأصابت الأحياء والأموات.. وإلا فبم نفسر كل هذا الهراء؟

إن رابطة العقلانيين العرب كرّمت جورج طرابيشي لأن له تاريخا في البحث والنقد والترجمة والتأليف، يمتد على نحو مائتي كتاب. وكان من حق رضوان السيد أن يهاجمنا لو أننا قمنا بتكريمه لأنه حضر ألف مؤتمر أو أضاع عمره في المشافهة والنجومية الكاذبة.

وأخيرا، نناشد السيد أن يبتعد بحمولته التكفيرية عن دول الخليج، التي بقيت البقعة الوحيدة الطاهرة من دنس الطائفية، والمعبر الوحيد اليوم عن فكرة التعايش السلمي بين كل الأديان والطوائف. فالخليج العربي بالتحديد، ليس في حاجة إلى قرضاوي آخر.