رضوان السيد

انعقدت الجلسة الثانية لمجلس النواب اللبناني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفشل النواب في ذلك. فالمرشحان هما نفسيهما كما في الجلسة الأولى، وكلاهما في الأصل من قوى 14 آذار. وقد حصل المرشح سمير جعجع في تلك الجلسة على 48 صوتاً، وحصل المرشح هنري الحلو على 16 صوتاً. وكان النصاب اللازم لصحة انعقاد الجلسة يومَها متوافراً (أي 86 صوتاً من أصل 128). وهكذا فقد ظل المرشحان بعيدين عن الفوز لأنه كان على أحدهما نيل 86 صوتاً. أما في الدورة الثانية فيحتاج النجاح إلى 65 صوتاً فقط. لكنّ التصويت لم يحصل، لأن النصابَ لم يكتمل. وقد أعلنت قوى 8 آذار أنها تغيبت عمداً لكي لا يكتمل النصاب اللازم للانتخاب، لأنها تخشى حصول التصويت، دونما توافُق مسبق على الرئيس المُراد انتخابه! وبالطبع ففي الديمقراطيات المعاصرة، لا يحصل الانتخاب بالتوافُق، لأنه لا يعود انتخاباً حراً، لكن هذه هي العادة في لبنان المنقسم طائفياً وسياسياً.

هل ينبغي أن يخاف اللبنانيون لعدم انتخاب رئيس بعد جلستين للمجلس؟ المراقبون مفترقون لهذه الناحية. فالذين يقيسون الأمر بالمقاييس الأوروبية والأميركية يعتقدون أنه لا مبرر للخوف. فكثيراً ما يُنتخب الرئيس بعد عشرين تصويتاً وأكثر. وحتى عندما يُنتخب الرئيس بالاقتراع العام، قليلا ما ينتخب من المرة الأولى. أما الذين يعرفون التجربة اللبنانية، ويتأملون المشهد في المنطقة؛ فخوفَهم يتعاظم، لأنهم يخشون أن تنتهي مدة رئيس الجمهورية الحالي (25 مايو الجاري) دون أن يتمكن النواب من انتخاب رئيس جديد، فيحصل الفراغ في الرئاسة كما حصل في المرة الماضية.

&


لقد كانت هناك عدة سيناريوهات لا تزال سارية المفعول. الأول أن يتمكن المرشحون للرئاسة من المعسكرين المختلفين أو من المستقلين، من الاتفاق على واحد منهم أو من غيرهم، بحيث يذهب المسيحيون إلى مجلس النواب بمرشح واحد. وهو حل مثالي ما توافر حتى اليوم. والسيناريو الثاني أن يظل المرشحون الكبار منقسمين، لكن «الروح» الديمقراطية تقتضيهم أن يحتكموا لمجلس النواب، ومن يحصل على الأكثرية (ولو صوتاً واحداً) يكون هو الرئيس، وقد حصل ذلك مرة واحدة في التاريخ اللبناني الحديث عام 1970. والسيناريو الثالث والذي صار متعارَفاً عليه منذ ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أن يكونَ هناك ناخب كبير خارجي، هو الذي يحدد المرشح الرئيسي، ويوافق النواب في كثرتهم الساحقة عليه! وكانت سوريا هي ذلك الناخب الكبير طوال عقود. وفي العادة يجري تعديل الدستور للتلاؤم مع إرادة القوة الغالبة. في الانتخابات الرئاسية الأولى آخِر الحرب الأهلية (1989) قدّمت سوريا مرشحين فازا الواحد بعد الآخر. ثم ارتأت اختيار قائد الجيش (أميل لحود) للرئاسة، وأَرغمت المجلس النيابي على التمديد له لثلاث سنوات بعد انتهاء مدته! والرئيس الحالي (ميشال سليمان) كان قائداً للجيش أيضاً. وقد اختاره النواب اللبنانيون للرئاسة بعد فراغ في المنصب دام لعدة أَشهر. وكانت سوريا الأسدية ما تزال ذات نفوذ (2008)، لكن اللاعب الأبرز كان وما يزال «حزب الله» وتنظيمه المسلح. وبالطبع ما كان سليمان وقتها مرشحه الأبرز، لكن الطرفين (14و 8 آذار) توافقا عليه في مؤتمر الدوحة، بعد أن احتل «حزب الله» بيروت لإسقاط حكومة السنيورة.

عندما يتعذر الوفاق الداخلي، ينتقل القرار للاعبين الخارجيين. ويكون هناك طرف خارجي رئيسي، ولاعبون آخرون أقل سطوة. ولدينا اليومَ بلبنان قوة غالبة هي «حزب الله» ومن ورائه إيران. وليس لسوريا الأسد هذه المرة أي نفوذ؛بل إن «حزب الله» أرسل قوات بأمر من الحرس الثوري الإيراني لمساعدة الأسد على الصمود في وجه الثوار. لكنّ الحزب لا يملك هو وحلفاؤه المسيحيون أكثرية في مجلس النواب، وهكذا فهم لا يستطيعون تحديد اسم الرئيس بمفردهم رغم تنظيمهم المسلح، الذي لا يبدو مستعداً لاحتلال بيروت مجدداً! وفي الوقت نفسه فإنّ قوى 14 آذار ما عادت تملك أكثريةً في المجلس رغم فوزها بانتخابات 2009، لأن النائب وليد جنبلاط، ومعه 11 نائباً انشقوا عنها وشكلوا مع آخرين كتلة وسطية مرجِّحة. وجنبلاط، ضد المرشحين المسيحيين الرئيسيين: جعجع (14 آذار)، وميشال عون (8 آذار)، لذلك فقد رشح في الجلسة الأولى النائب هنري حلو وحصل له على ستة عشر صوتاً بنيهم بعض الغاضبين على جعجع من قوى 14 آذار!

إنّ هذا العجز عن التوافق قد يؤدي إلى فراغ منصب الرئاسة. والقوى الخارجية الحاضرة: إيران والسعودية. ومن غير الإقليم: فرنسا والولايات المتحدة. ويراهن كل من جعجع وعون على دعم قوة أو أكثر وممارسة الضغوط لصالحه. لكن القوى الخارجية هذه يحتمل أن تتوافق، ويحتمل أن تتفارق. فإذا توافقت فقد يكون على مرشح ثالث، وإن اختلفت فالمرجح أن تحاول كل منها إيصال أحد مرشحيها، وهذا ما يخشاه اللبنانيون من الفراغ. بمعنى أنه لا يمكن عندها التحكم في الاحتمالات السيئة أو السلبية أو محاولة المجيء برئيس غلبة أو رئيس ضرورة. ويكون في العادة قائد الجيش، لتزايُد التحديات الأمنية!

لقد أدخل سعد الحريري طَعماً جديداً على اللعبة، للحيلولة دون تفاقم التأثير الخارجي. إذ رغم ترشيحه لجعجع؛ فإنه ما قطع مفاوضاته مع عون وأنصاره. وأثار ذلك انزعاج بعض أطراف 14 آذار، كما أثار انزعاج جنبلاط. إذ لو توافقت الأطراف الرئيسية، فإنه لا يعود «للوسطي» دور مرجِّح!

وهناك أخيراً أمر غير مطمئن وآخر مطمئن (مثل لعبة البلياردو!). أما الأمر غير المطمئن فالمشاهد الدموية في ليبيا ومصر وسوريا والعراق. فيما الأمر المطمئن هو إجماع الأطراف الخارجية على عدم هز الاستقرار اللبناني الهش.

وفي النهاية، هل ينتخب اللبنانيون الرئيس المسيحي الوحيد في العالم العربي؟ الذين يرون الشراهة الإيرانية للغَلَبة في العراق وسوريا ولبنان، لا يشعرون بالتفاؤل. أما من «يريدون» التفاؤل فيقولون: كما توافق «حزب الله» مع تيار المستقبل على حكومة بعد طوال قطيعة؛ فإنهما قد يتوافقا (ومن ورائهما القوى الإقليمية) على انتخاب رئيس للجمهورية! والله المستعان!

&