خليل علي حيدر

&آثر مرشد الإخوان حسن البنا الصمت والكتمان والغموض وسيلة للعمل الحزبي والصعود السياسي في مصر خلال مرحلة الحرب. وعمد إلى عسكرة جماعته كل ما أسعفته الإمكانيات والعلاقات مع النظام الملكي المأزوم.

وأعد البنا، يقول طارق البشري، (فرقاً للجوالة، وجَمع السلاح ونظّم جهازاً خاصاً مسلحاً، ودرّب أعضاءه على الانصياع الكامل، وكان كل ذلك معلقاً ومربوطاً في يد فرد - المرشد - لا يُعرف له موقف محدد وصريح في أية مسألة ولا يمكن التنبؤ بما سيتخذ من مواقف مستقبلاً، وأصبحت الجماعة بهذا كالقنبلة التي لا يُعرف متى تنفجر، ولا من سيكون ضحيتها. وفي عام 1946، عندما بلغت الجماعة ذروة انتشارها وانطلاقها، بلغ عداؤها للوفد ذروته ووصل إلى حد الاشتباك في الطرقات مع مظاهرات الوفديين والشيوعيين).

&


وتُظهر بعض المراجع قوة "الإخوان" وانتشارهم في هذه المرحلة. فقد أقاموا العديد من الشركات الاقتصادية التي درّت عليهم الأرباح، مكّنت لهم في أوساط العمال، وأصدروا جريدة يومية ابتداء من 5 مايو 1946، وأنشأوا الكتائب وأقاموا أماكن للتدريب على الأعمال العسكرية، وأوثقوا العهود مع أعضاء الحزب بصورة بيعة لرئيس الشعبة فالمرشد شخصياً، وقرروا "السمع والطاعة في المنشط والمكره" مقروناً بالقَسَم، ووضعوا المرشد العام موضع الثقة التامة، و"جعلوا له المنصب مدى حياته ليس له أن يتخلى عنه أو يُعفى منه إلا بقرار من الهيئة التأسيسية".

ويتحدث د. الحسيني في كتابه الذي لم يُحبّذ الإخوان إعادة طباعته ونشره كثيراً، عن عدد أعضاء جمعية الإخوان فيقول: (بلغ عدد أعضاء الجمعية ما بين 300 و600 ألف عضو من طبقة العمال، عدا الطلبة المثقفين حسب رواية جريدة التايمز اللندنية - نقلاً عن جريدة "الإخوان المسلمين". أما البنا فذكرت الجريدة المذكورة أنه قال في العام الماضي إنه يتكلم باسم 500 ألف من الإخوان المسلمين الذين يمثلون مبادئ وآمال 70 مليون عربي و300 مليون مسلم. وذكر وكيلهم في المذكرة التي رفعها إلى مجلس الدولة في شهر أبريل سنة 1952 أن عدد الأعضاء العاملين في مصر وحدها بلغ سنة 1948 حوالي نصف مليون، والأعضاء المنتسبين والمؤازرين أضعاف هذا العدد".

يخصص طارق البشري فصلاً كاملاً من كتابه للحديث عن الإخوان بعد حسن البنا الذي "صاغ جماعة الإخوان المسلمين فكراً وتنظيماً بما يجعلها مرتبطة به شخصياً وما يجعله المسيطر الأوحد عليها الممسك الوحيد لأعنّتها والموجه لنشاطها". ويضيف البشري أن البنا استغل في ذلك عاملين: "أولهما الغموض المحيط بأهدافها وبطبيعتها وبمناهجها العملية كدعوة سياسية، وثانيها، بناء تنظيم الجماعة بطريقة تجعله صاحب الأمر وحده وتجعل سائر أجهزة التنظيم ومستوياته ومكاتبه ولجانه مجرد كيانات استشارية يملك عليها الأمر ويجب عليها السمع والطاعة".

كان غموض فكر الجماعة قائماً كما هو واضح على خلط الدين بالسياسة، إلى جانب طبيعة المرحلة ورؤى البنا الشخصية وكذلك الهيكل الفكري والتنظيمي لجماعة الإخوان شبه العلنية شبه السرية، والتي أراد لها المرشد البنا شريكة في كل شيء وغير مرتبطة سياسياً بأي شيء، تلعب على الدوام على الخيوط والحبال الممتدة بين الدين والسياسة والمنافسات الحزبية والصراعات والمصالح المتفاوتة وكل شيء.

فهي إذن جماعة لا يمكن أن تنسجم في أي عمل جماعي دون أن تهيمن عليه، ولا يمكن كذلك إلزامها بأي تصريح أو موقف لأنها قادرة على تفسير وتبرير كل شيء وفق النصوص الدينية أو تفاصيل السيرة والتراث وآراء المذاهب، أو المصالح المرسلة أو فقه الأولويات أو عشرات المداخل والمخارج الأخرى المعروفة والمجهولة.

يقول البشري: (كان ما يحيط فكر الجماعة وأهدافها من إبهام مما يفيد قيادتها في أن تجذب إليها كتلاً من الجماهير ومن القوى السياسية متباينة المواقف والمشارب في السياسة والأهداف العملية، وهو ما يفيدها أيضاً في القدرة على الحركة الطليقة غير المقيدة بأهداف محددة ولا مناهج مسبقة، وهو ما يفيدها في أن يحتفظ المرشد العام بسلطات الزعامة الشخصية في الجماعة وعلى كوادر "الإخوان" وجماهيرهم باعتباره صاحب الدعوة، فلا يملك أحد غيره في أية مواقف عملية أن يوضح أو يبين وجهة الجماعة، ولا يعترف الجمع الرابض في الجماعة لأحد غير المرشد بذلك، ولو كانت الأجهزة القيادية، فالمرشد هو المبايع على السمع والطاعة. وبهذا كان الغموض منهجاً يرتب نتائج عملية محددة، كان نوعاً من مصادرة "المعرفة" لحساب فرد واحد هو المرشد، فكان غموضاً واعياً ومقصوداً لفائدة معينة. وبدت الجماعة في زمن البنا قوية متماسكة موحدة، وكان من الطبيعي مع اغتيال المرشد العام في فبراير 1949 أن تستشعر الجماعة اليتم وأن تظهر الخلافات بين أعضائها وقادتها حول الأهداف السياسية ومناهج العمل).

كيف تلقى الإخوان كأفراد هذه التجربة العنيفة وكيف كان تأثرهم بها؟

نظر "الإخوان" إلى مرشدهم دوماً نظرة إجلال وتقديس، ولم يعمدوا يوماً إلى تحليل شخصية البنا أو قراءة أي نقد أو انتقاد يمسه أو يعارض فكره أو يكشف أخطاءه التنظيمية. فلا تربيتهم الحزبية كانت تسمح بذلك ولا البنا نفسه أو قيادات الجماعة. بل اعتبره الكثير منهم مصلحاً كبيراً ومجدداً للدين والإسلام، واغتبطوا لمجرد السير في ركابه ومؤازرة دعوته.

من أفضل النماذج هنا مثلاً كتاب د. يوسف القرضاوي المعروف "الإخوان المسلمون: 70 عاماً في الدعوة والتربية والجهاد". مكتبة وهبة بالقاهرة 1999. ففي المقدمة يطالب د. القرضاوي بالالتزام بالموضوعية والدقة العلمية لدى دراسة تاريخ الجماعة، ولكنه لا يطبق هذا المنهج بمتطلباته على تاريخ "الإخوان" والانتقادات التي وجهت إلى الحركة ومرشدها.

يقول د. القرضاوي: (كنت أخذتُ على الإخوان - ولا أزال - أنهم لم يكتبوا تاريخهم بطريقة علمية موضوعية موثقة، بعيداً عن كتابة "المتحاملين" من خصوم "الإخوان"، أو خصوم الإسلام، وعن كتابة "المناقبيين" من كُتّاب "الإخوان"، الذين ينظرون إلى تاريخ الإخوان على أنه جميعه مناقب وأمجاد، بل ينبغي النظر إلى "الإخوان" نظرة وسطية منهجية، تقول ما لهم وما عليهم، مميزين بين أصولهم وأهدافهم الإسلامية، التي لا ينبغي الخلاف عليها، وبين مواقفهم واجتهاداتهم البشرية، باعتبارهم مجموعة من المسلمين تجتهد في خدمة الإسلام).

غير أن د. القرضاوي لا ينظر بهذه المقاييس العلمية والحياد إلى مرشد الجماعة، فيقول عنه تحت عنوان حسن البنا: "القائد المنتظر"، من سنن الله تعالى: أن يهيئ لكل مرحلة رجلها الذي يناسبها، وأن يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها دينها، ويعيد إليها حيويتها. وقد قال سيدنا علي كرّم الله وجهه: "لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة".

ويستعرض د. القرضاوي مجددي الإسلام عبر العصور، ويقول: "قد يكون الرجل المنشود إماماً أعظم كعمر بن عبدالعزيز، وقد يكون أميراً أو قائداً عسكرياً مثل نور الدين محمود أو صلاح الدين، وقد يكون إماماً فكرياً ودعوياً، مثل أبي حامد الغزالي، وقد يكون مربياً روحياً، مثل عبدالقادر الجيلاني، وقد يكون مجدداً فقهياً وتربوياً وإصلاحياً مثل أبي العباس ابن تيمية. فكل واحد من هؤلاء جدّد فيما كان يفتقر إليه عصره وبيئته من جوانب التجديد الضرورية واللازمة". ثم يضع د. القرضاوي مرشد "الإخوان" في مصاف هؤلاء فيقول: "وقد كان وضع العالم الإسلامي عامة، ووضع مصر والعالم العربي خاصة، يحتاج إلى رجل ذي فكر ثاقب، وحس مرهف، وإيمان دافق، وإرادة صلبة، يشعر بما تعانيه الأمة من أمراض وآلام، ويقدر على تشخيص الداء، ووصف الدواء، ويصبر على متابعة مريضه، حتي ينتقل به من مرحلة السقام إلى مرحلة العافية، ومنها إلى مرحلة القوة". ثم يختتم د. القرضاوي هذا المقطع الطويل من التبجيل قائلاً: "كان هذا الرجل المنشود أو القائد المنتظر، هو حسن البنا".

&