محمد نور الدين

&كان إعلان الفيدرالية في العراق والنص عليه في الدستور أول تغيير عملي في خرائط سايكس- بيكو التي تحتفل بعد سنتين بالذكرى المئوية الأولى لوضعها بين القوى الاستعمارية الممثلة حينها بكل من فرنسا وبريطانيا وروسيا . وإذ انسحبت روسيا من الاتفاقية، بل هي التي كشفت عنها بعد سنة من توقيعها بفضل الثورة البولشفية التي عارضت الاستعمار، فإن هذه الاتفاقية تعد عنواناً لمخططات التقسيم المستمرة حتى الآن .
لقد خطط الغرب حينها لتقسيم المنطقة على أسس جغرافية، فكانت هذه الكيانات الهجينة التي لا يجمع منطق في ترسيم حدودها سوى أنها تساعد على تفتيت يكون المدخل، بل الشرط اللازم لإقامة الكيان الصهيوني . وليس غريباً أن يظهر وعد بلفور بعد سنة واحدة على اتفاقية سايكس- بيكو لأنه الوليد الطبيعي للتقسيم .


بعد مئة عام شهد الوطن العربي العديد من حالات الاستعمار المتجددة، أبرزها اتساعاً هو الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 . ومن المؤسف أن البعض أسهم في مساعدة الاحتلال، ولم يكن يعرف أن التخلص من نظام مثل نظام صدام حسين لا يعني الاستقرار والراحة . فلقد مارس صدام حسين كل الموبقات، وآخرها احتلال الكويت . لكن استدراج الخارج للتدخل وتغيير المعادلات الداخلية هو عين الغباء . ذلك أن العرب لم يتعلموا أن الخارج وكله معاد لا يمكن أن يكون إلا وفياً لمصالحه . لقد عمل الغرب، ومنذ تحرير الكويت، على تهيئة المجتمعات العربية نفسياً للتقسيم . من ذلك رسم خطوط عرض في العراق يقسم بها البلاد إلى ثلاث مناطق جغرافية، شمالية تخص الأكراد، ووسطى تخص السنة، وجنوبية تخص الشيعة .
وفي المنطقة الكردية حصلت انتخابات برلمانية وشكلت حكومات وتأسس جيش، وذلك كله من طرف واحد، مستفيدين من الحظر الجوي على تحليق طائرات صدام حسين فوق المنطقة .
وبعد سنوات قليلة كان العراق يشهد ظهور أول دستور انتقالي يلحظ تقسيم العراق إلى فيدراليتين كردية وعربية . وترسخ ذلك في الدستور النهائي ليكون العراق أول دولة فيدرالية في المنطقة العربية، وبعد مئة سنة على تقسيمات سايكس- بيكو .
غير أن رياح الشرذمة لم تقف عند هذا الحد، بل إن السودان تحول إلى أول مثال على التقسيم الجذري بعد سايكس- بيكو، عندما انفصل جنوب السودان عن شماله وفق استفتاء وافقت عليه الحكومة المركزية في الخرطوم، وتفوقت الحالة السودانية على الحالة العراقية .


لقد شكل ما يسمى ب "الربيع العربي" بداية لمسار انحداري رهيب في وحدة الجغرافيا المشرقية والمغاربية . فدخلت الأعراق والطوائف والمذاهب في حروب أهلية لم تعرف مثيلاً لها المناطق العربية . ففي ليبيا تغلبت النزعات المناطقية وباتت كل شيء، إلا أن تكون دولة لها هوية وطنية واحدة . وفي اليمن انفتح جرح المذاهب والقبائل والمناطق على حرب مفتوحة لا يعرف أحد نهايتها . وفي سوريا تحولت الحرب هناك إلى مسرح لتدخل جميع القوى الإقليمية والدولية . وفي العراق كان المثال الأكثر بروزاً على نزعة التفتيت بعد سقوط محافظات بكاملها بيد تنظيم "داعش" المتطرف، وظهور ترسيم جديد على الأرض يفرز العراق إلى مناطق مذهبية وعرقية .
غير أن الأبرز في المعمعة العراقية ما يتصل بالقضية الكردية، حيث دخلت قوات البيشمركة، (الجيش الرسمي لفيدرالية إقليم كردستان)، إلى المناطق المتنازع عليها مع حكومة بغداد، لا سيما مدينة كركوك ومحيطها، بل قام رئيس الإقليم مسعود البرزاني بزيارة المدينة، على طريقة دخول السلاطين الفاتحين، ليعلن من هناك أن كركوك باتت جزءاً من اقليم كردستان ولن تخرج منها أبداً، معتبراً أن المشكلة قد حلت، وأن المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بمنطقة كركوك قد طبقت، وكركوك اختارت كردستان، وأنه لم يعد لهذه المادة من وجود .
يتقدم الأكراد إلى بلورة حدود دولتهم الجديدة التي لم يعد بعيداً، بل محتماً، أن تعلن دولة مستقلة محصنة بموارد نفطية كبيرة، خصوصاً في كركوك . والتغيير الحاصل في العراق على الصعيد الكردي ستكون له تداعياته الكبيرة على المنطقة وعلى تركيا وإيران . لكن المؤكد أن العرب يعيشون في أسوأ مراحلهم من انعدام المسؤولية، ومن الإمعان في تغليب الأحقاد ونزعات الثأر، والتعطش للغة الدم، في عودة كاملة إلى جاهليات أين منها جاهلية ما قبل الإسلام .

&