عبدالله بشارة

لا توجد بدعة في هذا التساؤل الذي جاء ليس من عندياتي، وانما طرحه صحافيون زائرون من بريطانيا وأمريكا في زيارات متكررة للكويت مدفوعين بالرغبة في الوقوف على حقائق الكويت السياسية والاجتماعية، وليس هذا التساؤل وليد اليوم وانما منذ فترة طويلة وأنا أجد هذا التساؤل أمامي في اللقاءات التي يتم ترتيبها مع هؤلاء الزوار سواء مباشرة أو عن طريق وزارة الاعلام.


من يأتي الى الكويت في صيفها الحار لا يضيع وقته في التفسح في المولات التجارية وانما يأتي برغبة جامحة لمعرفة ما يدور، وأعترف بأن الذي أثار هذا الموضوع في هذا الوقت هو رؤية النائب مسلم البراك ممتثلا أمام النيابة في السجن المركزي بقرار من النائب العام مع احالته الى المحكمة في القضيتين المرفوعتين من رئيس المجلس الأعلى للقضاء وبالتهم الثلاث، الاخلال علانية باحترام قاض، القذف، السب.


ويحمل مسلم البراك صفة الأمين العام لتجمع «حشد» وهو ائتلاف فضفاض من مجموعات تنتمي الى جمعيات أو الى قبائل أو من انتساب شخصيات عامة لها صوت في الفضاء السياسي.


وهل يمكن في ضوء هذه الحقيقة التي أدخلت البراك الى السجن المركزي، القول بانه يمارس هواية المشاكسة وممارسة هندسة التجمعات التي تصدر عنها تحديات لسياسات الدولة وللنظام العام أم أنه يحمل مشروعا سياسيا اعتراضيا فيه مؤشرات اصلاحية كما يتصورها مؤيدوه؟.


بعض الزوار من الاعلاميين يتصورون أن الشخص الذي يمارس الاعتراض وبصورة مستمرة وبعمل متواصل لابد ان يكون عمله يرمز لشيء غير متوافر وأنه يسعى لتحقيقه، ولذلك فإن العديدين من أنصاره يرونه رمزا جماهيريا له صوت يعبر عن طموحات الجميع ويرمز لما يريدونه، ويعتقدون بأنه مخلص لطموحاتهم وأنه ساهم في تسهيل مجرى حياتهم.


وماذا عن غيره من أعضاء هذا التحالف الذي يقوده تحت اسم «حشد»؟ وهل معقول ان تخرج من جمعية الاصلاح أصوات تتآلف مع برنامج مسلم البراك الذي يمكن وصف مضامين برنامجه باللوحة الراديكالية الطامحة إلى الدعوة لاختيار رئيس وزراء من البرلمان أو تغيير مواد الدستور وبما يحول نظام الكويت الى شيء يقترب من دوقية لوكسمبرج؟.


ونحن نعلم بأن مبررات ترخيص جمعية الاصلاح هي الدعوة للارتفاع بالقيم الاسلامية النبيلة ونشر المحبة والتبشير بالمودة والتواصل، وبالروحانيات الدينية، هذا شيء عظيم لا يمكن ان يتعايش مع ممارسة السياسة التي فيها كل ما يلوث وكل ما يقزز ويستفز، واذا ما انضمت عناصر من الجمعية الى اللوحة التي يريدها مسلم البراك فإن جمعية الاصلاح ستتحول الى مؤسسة سياسية فيها التخلي التام عن عبء الاصلاح وعن مواصلة الدعوة العفيفة له، وفيها انسحاب من المسؤولية التربوية السامية في اتجاه نحو الالاعيب السياسية الغثيثة، وتتحول من جامع للقلوب الى لاعب في حلبة الصراع والتكسير.


وكنت أقول للزوار من الاعلاميين الأجانب إنه لا يمكن ان يتقبل كبار المسؤولين في ادارة الجمعية الاقدام على المشاركة في وحل السياسة وتلطيخاتها، ولذلك فأنا لا اخذ الصوت الشبابي المنتسب لجمعية الاصلاح جديا في معارضته، وأفسره بالاشتياق الى لعبة سياسية - برلمانية في جدلية الامتيازات، لهذا أطلب من الزوار عدم تسجيل هذه الأسماء في ديوان الاعتراض الكويتي.


وهناك آخرون موجودون في التعاطف مع رمزية مسلم البراك وليس بالضرورة دعما لمحتوياتها أو الموافقة على كل ما فيها، وهؤلاء أشخاص صحيح أنهم ينتمون لقبائل، لكنهم موجودون بصفة شخصية استهوتهم هذه الرمزية.
وهناك كثيرون يجدون في ممارسة المعارضة هواية التسلية السياسية وربما ينجذبون نحو مضمون الحركة «البراكية» - نسبة الى «البراكَ» في احتمال مستقبلي لرئيس وزراء منتخب. وهذا منحى شرعي يستهوى الكثيرين من شعب الكويت، لكن الفرق واسع بين صوت البراك وبين هؤلاء، فالبراك وهب وقته وأعصابه لهذا الشيء البعيد المنال، وأكثر من ذلك احترف التحدي العلني في صدامات مع قواعد الانضباط فيذهب الى أبعد مدى في حدة النقد والاتهام وهو الأمر الذي دفع رئيس مجلس القضاء الى مساءلته قانونيا، ومنها الى السجن المركزي ممارسا لتمريناته في الشد والجذب السياسي.


وأقول لهؤلاء الزوار يجب ألا تتجاهلوا الارث الاجتماعي الذي يتحكم في عصب الكويت، في اشارة الى الأبوية السياسية والتسامح القائدي الذي يتعامل مع الجميع من أطياف المجتمع، بكل ألوانه وتقلباته، باللين والحسنى ويمتص بسعة صدر، ويرى أن هؤلاء على الرغم مما يقولون هم أبناء للقائد، وهذه ظاهرة الأنظمة الخليجية ذات الرعاية الأبوية وتتميز بها مجتمعات الخليج، واستحسن بعض القيادات العربية فوائدها، وسعى المرحوم أنور السادات إلى توظيفها باستعارة نهج كبير العيلة المصرية كرمزية دون يأخذ محاسن التسامح الخليجي.


ونضيف أن هؤلاء المعترضين في الساحات المفتوحة يتحدثون بشيء آخر في الصالونات الهادئة المغلقة، ولهم تواصل مع القيادات العليا ويتمتعون بالرعايا الشاملة ويقبضون حقوقهم ويصرون عليها ويسألون عن المزيد.
هؤلاء، في النهاية، أبناء الكويت وهم يعرفون الخط الفاصل بين الممكن وبين المرغوب فيه، ويعرفون أيضا حقائق الدستور المستند إلى اجماع عام لا يمكن خلخلته دون توافق جماعي يتعذر الحصول عليه حتى في المستقبل البعيد، وأن الدستور مظلة تتناغم في داخلها كل الفئات وأي ثقوب في هذه المظلة ستنساب منها بداية أمواج الطوفان السياسي.


وهنا يثار السؤال المنطقي: هل توجد معارضة في الكويت؟، وهنا نختلف عن مفهوم المعارضة، فنقول إن دستور الكويت هو دستور مشاركة تم تأسيسه على تعاون بين البرلمان والسلطة التنفيذية، ويتيح للنائب ان يسأل ويستفسر ويوجه أسئلة كلها في اطار الاصلاح والتصويب، واذا تعذر التصويب فيمكن اللجوء الى المساءلة التي تأتي عند اغلاق أبواب الاصلاح، والمساءلة ليست للاغتيال السياسي والتشنيع وانما هي صرخة برلمانية لتجاوز التقصير.
ونعترف بأن هناك سوء استعمال لهذه الآلية الاصلاحية، ويستغلها النائب عندما لا يأخذ ما يريد من خدمات، وقد أظهرت التجربة أن معظم الاستجوابات هي لارضاء نزعة الخصومة لمسببات لا علاقة لها بالاصلاح وانما بسبب فشل الوزير في ترضية النائب الذي لم يحقق ما يريد، ولم يشبع نزعة الاستحواذ لديه.


هذا الوضع النيابي لا يحمل هيئة المعارضة للحكومة، على غير ما كانت عليه هيئة المعارضة القديمة في بداية العمل البرلماني، خلال عهد الأيديولوجيات العروبية واليسارية حيث حمل بعضها نواب كويتيون بنهج فكري كان البرلمان الاطار الشرعي لاستعراض هذا النهج الأيديولوجي، والدفع ليأخذ شأنا في الجدل السياسي الكويتي، ونجح نواب ذلك النهج في ادخاله في التفاهمات السياسية والاجتماعية الكويتية، لكن وهج الأيديولوجيات لم يستمر وانحسر تأثيرها وجاءت حكمة واقعية العقلانيات التي تتسيد نهج هذا الزمن.


لا توجد حكومة ظل ولا حزب طاغ ولا برنامج حزبي جماهيري، وكل ما يرمز له السيد مسلم البراك هي أفكار يراها الكثيرون سليمة لكن ليس هذا زمانها، ولذلك لا تستدعي ضياع الجهد ولا تبرر بشاعة الصدام مع أهل القانون ورجال الشرطة.


ورغم ذلك فإن زوار الكويت من رجال الصحافة يبحثون عن مسلم البراك ويفضلون لقاءه ويحرصون عليه أكثر من حرصهم على الالتقاء بي أو بغيري، ويقولون إن البراك حامل شيئا مثيرا، قد يكون مستحيلا في الحاضر وليس مستحيلا في المستقبل، وهو راض بالعذاب الذي يأتي لكل من يحمل مشروعا قبل زمانه.


هذه صورة موجزة عن الشيء المثير الذي يبحث عنه الاعلاميون الوافدون، فهم يستمعون لما أقول لكنهم يصغون جيدا لما يردده السيد مسلم البراك، نحن نعطي حقائق، والبراك يعطي لسعات، وهذا ما يريدونه.
&