عبدالحميد الأنصاري

قضي الأمر وأعلن "داعش" قيام دولة الخلافة، وألغى الحدود المرسومة بين العراق وسورية، وقام "أهل الحل والعقد" من الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى بمبايعة البغدادي "خليفة" للمسلمين في كل مكان، تجب طاعته ومبايعته، ودعا البغدادي مسلمي العالم وبالخصوص "الفقهاء والدعاة وأصحاب الكفاءات" للهجرة إلى دولته.


يسيطر "داعش" اليوم على مساحة تقدر بـ5 أضعاف مساحة لبنان، أي نحو 50 ألف كم مربع، من شرق حلب مروراً بالرقة ودير الزور وصولاً بالمدن العراقية الموصل والأنبار وديالى، وهي قابلة للتوسع، كما يبلغ عدد مقاتليه 13 ألفاً وهم في ازدياد مستمر نظراً لاضطرار خصومهم من مقاتلي جبهة النصرة وغيرها، للاستسلام والمبايعة بسبب نقص السلاح والذخيرة وضعف إمكانات الصمود، كما أن "داعش" أصبح اليوم أغنى تنظيم قاعدي، لاستيلائه على أموال ومغانم كثيرة، آخرها أكبر حقل نفطي في سورية "العمر" الذي يقدر إنتاجه بـ200 ألف برميل يومياً. "الخلافة" حلم يجمع كل التنظيمات الإسلامية بمختلف مشاربها وأطيافها، يدعون إليها ويسعون إلى إحيائها– طوعاً أو كرهاً– ويرونها "الدواء الناجع" لكل أمراض الأمة المزمنة، وقد انتهز "داعش" حلول الشهر الفضيل لإعلان الخلافة، في رسالة لها دلالاتها في الوجدان الديني المسلم، حيث إنه شهر الجهاد والاستشهاد والقرارات الحاسمة في التاريخ الإسلامي، طبقاً لهدى الحسيني. التساؤلات المطروحة الآن: كيف نجح "داعش" فيما لم تنجح فيه الفصائل الأخرى المتشددة؟ لماذا كان "داعش" الأكثر استقطاباً للمقاتلين من مختلف دول العالم؟ لماذا يشكل "داعش" أكبر خطورة على الأوطان والأنظمة القائمة؟ هناك العديد من التفسيرات، أبرزها:


1- أن الفراغ الأمني، وتردي الوضع السياسي في العديد من المناطق السورية والعراقية، شكلا ما يشبه "الثقب الأسود" الذي اجتذب المئات من الجماعات المتشددة التي وجدت في تلك المناطق أرضا خصبة لنموها وتكاثرها.
2- الحواضن الاجتماعية السورية والعراقية والتي عانت طويلاً سياسات التهميش والإقصاء والتصنيف الطائفي والقمع، لم تشكل موانع مقاومة لهذه الجماعات المتشددة، بسبب أوضاعها المتردية من ناحية واستيائها من السياسات المطبقة من ناحية أخرى، ومع صحة هذه التفسيرات، إلا أن التساؤل الأساسي يبقى قائماً: لماذا استطاع "داعش" من بين كل التنظيمات، أن تكون له الهيمنة واليد الطولى عليها وعلى تلك المناطق، وأن يكون الأكثر اجتذاباً واستقطاباً للشباب المتطوع من مختلف دول العالم؟!


في تصوري: أن السر يكمن في "أيديولوحية داعش" فهي أيديولوحية لا تعرف إلا العنف المفرط والتدمير الشامل، إذ لا رحمة مع الخصوم ولو كانوا من نفس الأيديولوحية التكفيرية، وهناك قصص مرعبة متداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، تصور الوحشية البالغة لـ"داعش" مع خصومها الذين يقعون في أسرها، هذه "الأيديولوجية البالغة العنف والدموية" هي التي تجتذب الشباب المتحمس المندفع للتضحية بالنفس، اعتقاداً بأنها الجهاد الحقيقي في سبيل الله ونصرة الإسلام ودولته، والأيديولوجيات المتطرفة– عادة– تكون الأكثر استقطاباً للشباب المتحمس عقيدياً. تأمل كم جنت أيديولوجيات متطرفة مثل "النازية" و"الفاشية" على البشرية! وكم حجم ضحاياها! الأكثر تشدداً والأكثر عنفاً والأكثر توحشاً، هو الأكثر جاذبية لدى قطاع من الشباب الذين تستهويهم مثل هذه الأيديولوجيات المتطرفة، وبخاصة هؤلاء الذين يرون الجهاد "فرض عين" عليهم، يأثمون بالتقاعس عنه، فهؤلاء عندما يختارون، يختارون الأكثر تشدداً وعنفاً بين الفصائل المسلحة، لأنهم يعتقدون أنه الأصدق تمثيلاً لفرضية الجهاد الإسلامي! لقد بلغ عنف "داعش" مبلغاً لم يخطر ببال بشر ولم يسبقه إليه أي فصيل، فقد استرعى انتباهي ما كشفته التحقيقات التي أجراها القاضي اللبناني مع الموقوف الذي ألقي القبض عليه، بعيد تفجير الانتحاري نفسه في منطقة الروشة، فقد تبين أنهما كانا يخططان لاستهداف مطعم "الساحة" في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو أحد أشهر المطاعم في المنطقة وأكثرها شعبية، وكانت الخطة تقضي بأن يفجر الانتحاري الأول نفسه داخل المطعم ليقتل كل من فيه، ثم يأتي الانتحاري الآخر بعد أن يتجمهر عدد أكبر من المواطنين، ليفجرهم جميعاً، ضماناً لوقوع أكبر عدد من الضحايا الأبرياء! أي تفكير إجرامي هذا؟! لا يكتفيان بالتخطيط لتفجير الأبرياء البؤساء في المطعم بل يريدان تفجير حتى من يأتون لنجده المصابين وإسعافهم! هذه هي "أيدبولوجية داعش الدموية المرعبة" قتل أكبر عدد من الناس لبث أكبر ترويع في النفوس، هذا هو ما يدفع نفوساً مريضة لتجنيد نفسها في صفوف "داعش" دون بقية التنظيمات المتشددة، عنف "داعش" شديد على الجميع بما فيها التنظيمات المتشددة، بل إن عنف "داعش" على التنظيمات المنافسة له أشد، والخطوة القادمة لـ"داعش" هي إخضاع كل تلك التنظيمات والفصائل وإجبارها على البيعة لدولة الخلافة، وقد وجه المتحدث باسمها رسالة تهديد لكل الفصائل الأخرى "إننا والله لا نجد لكم عذراً شرعياً في التخلف عن نصرة هذه الدولة". في الختام: يبقى تساؤلان:
1- ما انعكاسات نجاح "داعش" في إعلان الخلافة، بانتشار "دواعش" محلية في الدول العربية؟
2- هل تملك دولة "الخلافة" مقومات البقاء، أم تزول سريعاً كما زالت "خلافات" ظهرت على هامش التاريخ الإسلامي لجماعات متشددة عديدة؟