خالد غزال

لم يعد الحديث يدور عن احتمالات تقسيم العراق وما يرافقه من تحذير سلبي ناجم عن مخاطره، بل بات الحديث صريحاً عن المسار التقسيمي الذي يسلكه هذا البلد، بل وتحقق «الإنجاز». لعل الأحداث الأخيرة التي شهدتها بعض المناطق والتي اتخذت ما يشبه انتفاضة مذهبية، عسكرية وسياسية، تقطع الشك باليقين بأن العراق بات فعلياً وواقعياً ثلاثة «عراقات»، فيها حد أدنى من التجانس السكاني، سبق وان جرى بناؤه على امتداد السنوات السابقة من خلال عمليات نقل وانتقال ديموغرافي، كان الفضل فيه للنظام البعثي ولتوجهات صدام حسين في هذا المجال.

&

يغلب على الكتابات السياسية المعالجة لتطورات العراق منطق المؤامرة الامبريالية الاميركية الغربية الصهيونية، المسؤولة عن التفكك العراقي وتقسيمه، ولا تعطى العوامل البنيوية الداخلية الأهمية التي تستحق، في وصفها العنصر الأساس الذي يصعب على أي فعل خارجي ان ينجح من دون هذا الممر الإجباري. تتمثل عوامل التقسيم الداخلي في التناقض الطائفي المذهبي بين السنة والشيعة، والذي يعود الى خمسة عشر قرناً، عندما اندلع الصراع على السلطة بين القبائل في الجزيرة العربية، وهو الصراع الذي رُكّبت عليه أيديولوجيات وظف فيها كل طرف النص الديني والأحاديث النبوية في خدمة موقعه وموقفه. أظهرت العقود الأخيرة كم ان هذا الصراع متجذر في الوجدان العراقي، وكم هو أشبه بالطبقات الجيولوجية المتراكمة، بحيث تنبت طبقة كلما زالت اخرى.

&

عززت السياسات الداخلية لأطراف السلطة تصعيد هذا العداء الكامن والموروث بحيث تحولت الصراعات السياسية الى صراعات طائفية صريحة، خصوصاً في السنوات الأخيرة. الى جانب هذا العداء، كان التقسيم قد قطع أشواطاً بعيدة في المناطق الكردية، منذ ان مارس الحكم المركزي في بغداد سياسة عنصرية ضد الأكراد، واضطهدهم ونكل بهم وحرمهم الحقوق السياسية، مما أوجد قاعدة صلبة للعزلة الكردية عن سائر مكونات المجتمع العراقي، وجعل الأكراد يستثمرون اي فرصة تتاح للاستقلال عن بغداد.

&

هذه العوامل القديمة – الجديدة، شهدت نوعاً من الانزياح خلال عقود تكوّن الدولة العراقية وصعود القومية العربية ومشروعها الوحدوي، مما ترجم نفسه بهوية وطنية عراقية غطت على الانقسام الطائفي والمذهبي الموجود أصلاً. وللتذكير، عندما نشبت الحرب العراقية الإيرانية مطلع التسعينات من القرن الماضي، قاتل العراقيون، شيعة وسنة، على المستوى نفسه ضد الجيوش الإيرانية، التي كان ينظر اليها على انها جيوش فارسية مناهضة للمكوّن العربي. لكن السنوات اللاحقة للحرب، وما رافقها من اضطهاد بعثي – طائفي للمناطق الشيعية، مقرونة بالاندفاعة الإيرانية ذات الطابع المذهبي، والمتعززة بالاحتلال الأميركي، كلها عناصر أطاحت بالهوية الوطنية العراقية، الهشة أصلاً، لمصلحة هويات طائفية ومذهبية، هي بطبيعتها البيئة الحاضنة للانقسام والتقسيم.

&

هذا التركيز على العوامل الداخلية لا يمنع من الحديث عن الفعل الخارجي. فالولايات المتحدة الاميركية عرفت كيف تستثمر عوامل الانقسام الداخلي لتبني عليه سياساتها. منذ انتهاء الحرب الايرانية - العراقية، انصبت السياسة الأميركية على الحد من قوة العراق ونفوذه الاقليمي. كان اجتياح الكويت وما تبعه من حرب على العراق اول الغيث في هذا المجال. خلال هذه الحرب أرسيت معالم المرحلة الأولى من التقسيم عبر حماية اقليم كردستان الذي نال حكماً ذاتياً، أمكنه على امتداد السنوات الماضية من بناء مقومات تتصل بمنطق قيام دولة عبر المؤسسات المطلوبة لهذا البناء. استكملت السياسة الأميركية نهجها التقسيمي خلال الاحتلال عام 2003، والذي جرى فيه تدمير مقومات الدولة العراقية، سواء في الجيش ام الإدارة، وتغليب مكوّن طائفي مذهبي على حساب آخر، مما أيقظ فكرة استقلال ذاتي آخر في الجنوب العراقي، لكنّ الأخطر كان ضرب ما تبقى من هوية وطنية عراقية.

&

استكملت عناصر التقسيم من خلال السياسة الاميركية المنجدلة هذه المرة بالطموحات الإيرانية للهيمنة على العراق، انطلاقاً من كونه يحمل غلبة طائفية ومذهبية مشابهة لإيران. ولأن منطق الثورة الإيرانية يستند الى اثارة النزاعات الطائفية وسيلة للتدخل والهيمنة، فقد وجدت في السياسة الاميركية المحابية لها فرصة لا تعوّض لإلحاق العراق كله هذه المرة بإيران. هكذا تجذرت وتبلورت اكثر فأكثر عناصر التقسيم، بحيث لا يخفى على اي متابع سياسي ان يلمس هيمنة ايرانية كاملة على العراق، لا ينكر القادة الايرانيون هذه الوجهة، بل يتحدثون عن العراق في وصفه جزءاً من المدى الحيوي والاستراتيجي لإيران.

&

ليس من قبيل المبالغة والتهويل من التحذيرات التي تطلق حول مخاطر تقسيم العراق واندلاع الصراع المذهبي المستمر بارداً، والمنقلب اليوم ملتهباً، من امتداده الى أجزاء أبعد من العراق. قد يكون ما نشهده تحت عنوان سيطرة «داعش» على أجزاء عراقية ليس سوى «رأس جبل الجليد» لما هو قادم على المنطقة، والذي يمكن وصفه اننا أمام فوضى كيانية، لكنها فوضى غير خلاقة مطلقاً.

&


&