محمد نور الدين

وحده مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان الفدرالي في العراق هو الذي يجاهر بضرورة إعلان استقلال كردستان ومن خلفه "إسرائيل" .


شكلت التطورات في العراق بعد هجوم "داعش" على عدد من المحافظات والسيطرة على مساحات واسعة منها، فرصة ذهبية لكي ينتقل أكراد العراق إلى مرحلة جديدة من مشروع دولتهم المستقلة . وغالباً ما تكون مبادرات مثل الحكم الذاتي في بلد موحد مقدمة لخطوات أعلى وأكثر تصعيداً وبالتالي أكثر اندفاعاً واقتراباً نحو التقسيم . فكيف إذا كان هذا الوضع موجوداً في بلد من العالم الثالث لا ينظر إلى صيغة الحكم الذاتي أو الفيدرالية سوى أنها نوع من الانفصال لا الحل لمشكلات تتعلق بالاتنية أو المذهبية . ولذلك فإن المدماك الأول في بلد عالمثالثي مثل العراق لنشوء وضع كردي تقسيمي كان منح الأكراد الحكم الذاتي في العام 1970 .


انتظر الأكراد عشرين سنة لكي ينتقلوا إلى نوع من "الفيدرالية الواقعية" والتي تسبب بها تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق يحظر في شمالها الكردي وجنوبها الشيعي الطيران على سلاح الجو العراقي في التسعينات بعد حرب تحرير الكويت . وانطلق الأكراد حينها إلى بناء دولتهم وتشكيل حكومة وجيش وشرطة وقضاء وبرلمان وإجراء انتخابات وما إلى ذلك من مظاهر الكيانية .


وعندما احتل الأمريكيون العراق كانت اللحظة المؤاتية لفرض دستور مؤقت، ومن ثم دستور دائم نص على عراق فيدرالي وتقسيمه إلى فيدرالية كردية في الشمال وفيدرالية عراقية في المناطق الباقية مع حق كل ثلاثة أقاليم طلب إقامة فيدرالية في ظل بعض الشروط .


الكل نظر إلى "العراق الجديد" على أنه مجرد خطوة نحو انقسامه الكامل، إما إلى دولتين أو إلى ثلاث دول .


اليوم مع غزوة "داعش" للعراق جاءت اللحظة المناسبة لانتهاز الفرصة من جانب مسعود البرزاني ليس فقط للتحضير لإعلان الاستقلال بل أيضاً إلى توسيع حدود كردستان والاستيلاء على مناطق متنازع عليها وتنتظر حلاً ولا سيما مدينة كركوك ومحافظتها .


كركوك بنظر الأكراد هي قدسهم . وهي أيضاً منبع هائل لثروات نفطية تدعم أكثر أسس الدولة الجديدة اقتصادياً بل تحولها إلى دولة نفطية أساسية في الشرق الأوسط .


من حق الأكراد الذين يفكرون على هذا النحو أن يمضوا إلى دولة مستقلة وهم الذين عانوا اضطهادات ومجازر من الأكثريات في الدول التي ينتمون إليها في كل المنطقة الشرق أوسطية . وهم شعب كبير وذو شكيمة ودور بارز في التاريخ العربي والإسلامي . وليس من العدل أن يبقوا من دون دولة .


لكن المأساة أن الجغرافيا العربية تنقسم على نفسها على زغل وعداوة لتتحول الدول الجديدة إلى تهديد إضافي للأمن القومي العربي الذي بات مستباحاً من كل القوى الإقليمية والدولية . وهكذا تجد الدولة الكردية المنتظرة في العراق دعمها الأول والأساسي من العدو "الإسرائيلي" ويجد النفط العراقي المصدّر إلى تركيا بصورة غير شرعية زبونه الأول في "إسرائيل" نفسها . ولا يخفي الأكراد تعاونهم الاستخباراتي والعسكري والاقتصادي مع "إسرائيل" .


لكن هذا الواقع المرير يجب ألا يحجب دور قوى إقليمية ودولية وازنة في دعم تفسخ الكيانات العربية من ليبيا إلى اليمن وسوريا فالعراق . ويجب ألا يخفى أن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وشيعية وسنية جاء باقتراح من نائب الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن وإدارة باراك أوباما التي توصف بأنها معتدلة ولا تريد حروباً جديدة . لقد هيّأ جورج دبليو بوش الأرضية اللازمة للتقسيم في العراق وجاء أوباما ليترجمها على الأرض .


ولا يجب أن يغيب أيضاً عن البال أن تركيا هي أول دولة في المنطقة تسعى لتدمير وحدة العراق السياسية عندما تجاهلت الحكومة المركزية في بغداد وأبرمت اتفاقيات نفطية مع كردستان العراق كما لو أنها دولة مستقلة . كما أن وزير الخارجية أحمد داود اوغلو انتهك سيادة العراق عندما زار كركوك التابعة لبغداد من دون إذن الحكومة العراقية كما لو أنه لا توجد دولة في العراق .


الجميع متواطئون في تقسيم العراق: سياسات الأكثريات الحاكمة منذ السبعينات وحتى الآن . والمؤامرات الصهيونية التي لن تهدأ قبل زوال "إسرائيل"، ومطامع القوى الإقليمية ولا سيما تركيا التي لا تزال ترى في العراق وكل المنطقة العربية مجرد مساحة كانت عثمانية ويجب عودتها التي لا تتم إلا بتقسيم جديد للمنطقة وإضعافها . وأخيراً وليس آخراً الولايات المتحدة الراعي الأكبر لكل التقسيمات التي تشهدها المنطقة .