محمد عاكف جمال

&

دعوة رئيس إقليم كردستان العراق، في الخطاب المهم الذي ألقاه في برلمان الإقليم أخيراً، لإجراء استفتاء حول مستقبل الإقليم وبقائه ضمن الدولة العراقية أو انفصاله، أثارت لغطاً كبيراً على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لما لذلك من أهمية لا يقتصر تأثيراتها على وحدة العراق، وإنما تتجاوز ذلك إلى دول المنطقة التي وضعت اتفاقية سايكس - بيكو معالم حدودها الجغرافية. دعوة رئيس الإقليم لم تأت من فراغ ولم تكن غير متوقعة، بل قد يعتبرها البعض جاءت متأخرة.

حلم تأسيس الدولة الكردية ليس جديداً، فلو اقتصر حديثنا عن هذا الحلم منذ مطلع القرن العشرين، لوجدنا أن المسعى الحالي للإقليم هو الثالث. فقد سبق للزعيم الكردي محمود الحفيد، أن أسس أول مملكة كردية في السليمانية في مايو 1919 إلا أنها سرعان ما قضي عليها، حيث اعتقل بعد إصابته في معركة الدفاع عن الدولة الوليدة، ونفي من قبل البريطانيين إلى الهند.

أعقب ذلك قيام جمهورية مهاباد في كردستان إيران، حيث ترأسها القاضي محمد الذي أعلن عن تأسيسها في ديسمبر 1946، إلا أن هذه الجمهورية الفتية لم يكتب لها البقاء سوى نحو أحد عشر شهراً، لأن الظروف الدولية التي ساعدت على تأسيسها سرعان ما تغيرت مع التوافقات على إعادة توزيع مناطق النفوذ بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، فقامت القوات الإيرانية باجتياحها وإعدام القاضي محمد وعدد من وزرائه.

ومع أن الكرد موزعون في أربع دول في منطقة الشرق الأوسط، هي العراق وتركيا وإيران وسوريا، إلا أن القضية الكردية كانت أكثر التهاباً في الأراضي العراقية، وواجهت حلولاً لم يكن الرفض لمطالبها القومية في مطلعها. فقد نص الدستور المؤقت الذي صدر بعد ثورة 14 يوليو 1958 بشكل صريح، على أن العرب والكرد شركاء في الوطن، وهو نص لم يعزز بإجراءات مما سمح بتجدد الصراع المسلح بعد أقل من ثلاث سنوات على صدوره.

لكن الحديث عن كيان كردي لم يجرِ التطرق إليه قبل عام 1970، حين أعلن عن التوصل إلى اتفاقية 11 مارس، التي حصل فيها الكرد على الحكم الذاتي واعترفت فيها الحكومة العراقية بحقوقهم القومية، ووافقت على استعمال اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية، وقدمت لهم ضمانات بالمشاركة في الحكومة، إلا أن قضية كركوك بقيت عالقة في انتظار نتائج إحصاءات لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في المدينة.

وقد تبين لاحقاً أن تلك الاتفاقية كانت خطوة تكتيكية من جانب الحكومة المركزية، ولم تكن ضمن رؤية استراتيجية تتعلق بمستقبل الدولة العراقية، لذلك أصبحت من الناحية الواقعية حبراً على ورق، وتجددت العمليات العسكرية التي انتهت بالعراق لتوقيع اتفاقية الجزائر عام 1975، التي سمحت للقوات العراقية بالانفراد بالكرد وإنهاء العمليات العسكرية في الإقليم وحسم الصراع ونسيان تلك الاتفاقية.

ورغم أن هذه التجارب الأليمة الثلاث وذكريات ما رافقها من حروب، لا تزال حية في أذهان صناع القرار الكردي وتدفعهم لتوخي الحذر الشديد والتروي قبل اتخاذ القرار النهائي بالاستقلال، إلا أن هناك مستجدات محلية وإقليمية ودولية مختلفة كثيراً عن الحالات التي أجهز فيها على وليدهم.

فتداعيات حرب الخليج الثانية عام 1991، سمحت للكرد في العراق بالحصول على الحماية الدولية في مناطقهم التي انفصلت عن الحكومة المركزية وأصبحت تدار من قبلهم، بعد أن خصصت الأمم المتحدة جزءاً من عائدات النفط التي أصبحت تدار من قبل المنظمة الدولية منذ وضع العراق تحت الفصل السابع من ميثاقها.

والآن وبعد مرور ما يزيد على قرنين من الزمن، أصبح الإقليم أشبه بدولة كاملة المواصفات، فله مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ولديه علاقات تجارية واقتصادية متشعبة، واستطاع أن يقيم علاقات دبلوماسية بدأت تأتي أكلها في ما يتعلق بتخفيف الحساسية من نشوء دولة كردية لدى دول الجوار.

كما توافرت للإقليم ثروات طبيعية أبرزها الثروة النفطية، إذ تشير التقارير الرسمية إلى أن الاحتياطي النفطي في الحقول الكردية، يفوق ما لدى ليبيا ويفوق ما لدى الجزائر، كما أن للإقليم جيشاً يتمتع بخبرات قتالية لا مجال للشك فيها.

وهناك إضافة لهذا وذاك، إصرار لدى القيادات الكردية لتحقيق حلم الدولة الكردية، وليس هناك أي شك بما ستؤول إليه نتيجة الاستفتاء، فالشعب الكردي كبقية شعوب العالم يعتز بهويته. إقليم كردستان من الناحية الواقعية منفصل عن العراق منذ عام 1991..

وقد اختط لنفسه سياسة تزيد من مساحة استقلاله عن المركز، وحرص قياديوه ومفاوضوه الذين تميزوا بالمهارة والخبرة، أن يجسدوا في متن الدستور قدراً من الاستقلال ومساحة واسعة من المناورة واتخاذ القرارات للإقليم، لا تقف عند حد ما يتعلق بالشؤون الإدارية والفنية داخل الإقليم، بل يتجاوز ذلك إلى ما يتعلق بأمن الإقليم والتصرف بالثروات الطبيعية الموجودة فيه، مما وضعه في مواجهة مستمرة وتشنج دائم مع المركز.

العراق ينحدر باستمرار نحو التفكك والانهيار، بسبب السياسات غير المسؤولة التي انتهجتها الحكومات على مدى السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي، والتي سمحت للهويات الضيقة بالطغيان على الهوية الوطنية، مما عزز التوجه لدى مكونات الشعب العراقي، ومنهم الكرد، نحو البحث عن خيار آخر لمواجهة تحدي البقاء.

فالكرد لا يرون مصلحة في الانخراط في النزاع الطائفي الذي بدأت ساحاته بالتوسع في المدن العراقية، خاصة بعد أن وصلت الحكومة المركزية إلى حالة من الضعف أفقدتها السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية.
&