علي إبراهيم

ليس هناك دليل أبلغ على حالة الفوضى التي تمر بها دول في منطقة الشرق الأوسط، أكثر من عدم قدرة وزير خارجية ليبيا على حضور اجتماع دول الجوار الخاص بليبيا في تونس، والذي عقد في غيابه بتمثيل من القائم بالأعمال في تونس، وهو وضع أشبه بحفلة أقيمت في غياب صاحبها.


لم يستطع الوزير الحضور بسبب الاشتباكات المسلحة التي تدور حول مطار طرابلس، والتي تصاحبها اشتباكات مسلحة أخرى في مدينة بنغازي، لكن الأدهى من ذلك هو أنه حسب التقارير الواردة من هناك فإن الوزارة تدار من منازلهم منذ فترة لأن الميليشيات المسلحة تحتل مقرها احتجاجا على أشياء غير واضحة يقال إن بينها فصل أحد مسؤولي الجماعات الإسلامية الذي عين فيها، كما تتحدث أنباء أخرى عن أن أوراق الوزارة مبعثرة على قارعة الطريق.
مشكلة ليبيا، كما هي في حزام الفوضى العربي المتلامس أفريقيا والذي يتسع ويهدد المنطقة كلها، هي تأكُّل الدولة أو حتى تفككها وفقدان سيطرتها على الأرض لصالح قوى في غالبيتها فوضوية تحمل السلاح وتفرض السيطرة. هذا هو الحال من اليمن إلى ليبيا والعراق، إلى مالي وبوكو حرام في نيجيريا، مرورا بالصومال وحركة الشباب هناك.


آيديولوجيات متشابهة في المضمون، ومختلفة في بعض الأحيان، وأسباب ومظالم متباينة، لكن النتيجة واحدة وهي فوضى وفقدان الأمل في المستقبل، وثمن فادح يدفعه الناس العاديون الذين يصارعون لتوفير قوت يومهم.
في العراق وسوريا التي يتمدد في بعض مناطقها ما يسمى بتنظيم داعش، الذي قرر استدعاء التاريخ وإعلان الخلافة الإسلامية، قال أحد المحللين الغربيين وهو يتحدث عما يسمى بدولة الخلافة «إنه لأول مرة سيكون لدينا عنوان بريدي واضح للإرهاب يمكن قصفه أو ضربه»، لكن المشكلة تبدو أعمق من ذلك، فهذه ثمرة سنوات من الفشل في معالجة قضية المصالحة الوطنية، واستيعاب الجميع في العملية السياسية، والاستقواء بميليشيات طابعها طائفي، بما أدى إلى خلق وضع شديد التعقيد جعل كثيرين يتحدثون علانية الآن عن التقسيم والتفكيك.


وينسحب سيناريو التفكيك على سوريا التي تحولت فيها انتفاضة شعبية سياسية إلى حرب أهلية مسلحة بعدها إقليمي ودولي، وتشابكت فيها الخيوط إلى درجة محيرة جعلت الجميع يقفون حذرين تجاه القوى التي تتحرك على الأرض وتحمل السلاح هناك، لكن القناعة التي بدأت تتبلور هي أن الاحتمال الأكبر أن تكون الخريطة الجغرافية مختلفة عندما يتوقف صوت الرصاص والقنابل.


القصة مختلفة في ليبيا، لكن الفوضى والميليشيات تنخر في جسد الدولة لتهدد بتفككها حسب ولاءات مناطقية. قد يكون نظام القذافي السابق مسؤولا عن الوصول إلى هذه الحالة بسبب عدم وجود مؤسسات قوية للدولة في عهده، وبالتالي عندما حدثت الثورة أحدثت حالة فراغ، لكن المسؤولية الأكبر هي على الطبقة السياسية التي راهنت على مصالح وانتماءات ضيقة. وحدث اختطاف من بعض القوى المرتبطة بـ«الإخوان» للحظة بما أدى إلى الصدام الحالي الذي يدور على أرض مدن كبيرة هناك، ووصل إلى درجة السيطرة على موانئ نفطية، وجعل اليد العليا لميليشيات مسلحة، بدلا من تقوية أجهزة الأمن الخاصة بالجمهورية الجديدة، وأصبحت الدول المجاورة مهددة أمنيا بسبب ارتباطات بعض هذه التنظيمات بأخرى مشابهة لها في دول مجاورة.


اليمن نموذج آخر للتفكك وتأكُّل سلطة الدولة، صحيح أن القوى المسلحة الموازية لأجهزة الدولة مثل الجيش والشرطة موجودة منذ زمن بسبب التركيبة القبلية، لكن حتى في أحلك الظروف السابقة لم يكن تحدي سلطة الدولة بمثل هذه القوة التي تمثلت أخيرا في سيطرة الحوثيين على مدينة عمران على بعد خمسين كيلومترا من العاصمة، بينما الجنوب مشتعل هو الآخر، وتنشط «القاعدة» في مناطق كثيرة.


المشهد أصبح حزاما من الفوضى يتمدد، وخلق صراعات جديدة لم تكن متصورة من قبل، مثل هذا الصراع الذي بدأ يظهر على السطح ويأخذ في أحيان شكل اشتباكات بالسلاح بين «القاعدة» مثلا ومنافستها الجديدة «داعش» التي تسحب البساط إرهابيا من المنظمة الأقدم.


وهو مشهد لن يقود سوى إلى الخراب ما لم يكن هناك عزم وجرأة على مواجهته، وإلا فإن طلب الحماية الدولية الذي أعلنه الرئيس الفلسطيني لن يكون مقصورا على غزة أو الأراضي الفلسطينية، لكن أيضا لبلدان عربية تفككت فيها سلطة الدولة لصالح ميليشيات وجماعات مسلحة.