توفيق رباحي

الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة مستهدفة حماس، مختلفة هذه المرة عن كل التي سبقتها. بما فيها تلك التي جرت قبل عام ونصف وكان نظام الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وسيطاً فيها.


صحيح أن الصور متشابهة، وكذلك التغطية الإخبارية ومشاهد الخراب وأنقاض البيوت والمباني، وصراخ الأطفال والنساء وعجز الرجال. هذا كله مكرر، سبقت رؤيته، وستتلو، مع الأسف.


لكن هناك اختلافات جوهرية كبرى وخطيرة في الحرب الجديدة، يدركها بالدرجة الأولى طرفاها، والذين كانوا قريبين منها كوسطاء أو كداعمين لهذا الطرف أو ذاك.


الحرب الحالية تجري من دون وسطاء، ومن دون مبادرات جادة وملموسة، إلى غاية انتهاء الاسبوع الأول منها وعلى الرغم من تجاوز عدد ضحاياها المئة والعشرين من الفلسطينيين. الولايات المتحدة متواطئة بعجزها عن لجم إسرائيل، وإن تحركت فبصيغة «المقاولة من الباطن». والإتحاد الأوروبي في صمت مزمن. الجامعة العربية، كعادتها، في حالة موت سريري. والدول العربية، بلا استثناء، أصغر من ان تملك شجاعة اتخاذ أي موقف أو قرار.
الوسيط الوحيد، التقليدي، أي الحكومة المصرية، تبدو وقد نفضت يديها من الموضوع، ليس عجزاً بقدر ما هو سعي لتصفية حسابات عالقة مع حركة حماس بسبب خلافات فرضتها ظروف مصر ما بعد انقلاب الثالث من تموز/يوليو 2013 الذي أطاح بنظام الرئيس محمد مرسي.


الحكومة المصرية، ظاهرياً، تدين حربا تمنت خوضها لكنها لم تجرؤ أو تستطع، على حماس. وأقل ما يتمناه نظام الحكم المصري، أن يلقّن حماس درسا، ولا يمنحها فرصة التوصل إلى هدنة تحفظ لها ماء الوجه.
يكفي المرء أن يقرأ بتمعن مواقف الخارجية المصرية من الحرب ليقف على لغة تشفٍ تشبه إلى حد ما خطاب بعض الدول العربية، منها مصر والسعودية، أثناء حرب إسرائيل على حزب الله ولبنان في تموز/يوليو 2006.
غزة، إذن، ليست ضحية إسرائيل فقط، بل ضحية هذه التطورات التي لم تكن يخطر على بال في الحروب السابقة بين حماس وإسرائيل.


غزة أيضا ضحية أطراف وعوامل أخرى اجتمعت وجعلت حرب 2014 عليها مفتوحة على كل الاحتمالات وفي الزمن.


هي ضحية التموقع الجديد الذي ترتب عن الربيع العربي واصطفاف حماس في معسكر، بغض النظر عن اسمه وعقيدته، يجعل منها بالضرورة خصما لمعسكر آخر، لأن أي اصطفاف يجعل من صاحبه خصما لطرف ما، رغما عنه.
تبدو حماس وكأنها الضحية الأبرز للزلزال الذي هزّ المنطقة العربية منذ 2011 وقضى على أنظمة حكم وجاء بأخرى. نشوة ما حدث في التجارب الأولى لهذا الزلزال، كتونس ومصر، شجع حماس على اتخاذ مواقف معينة والاصطفاف في معسكر بعينه، لكن الأحداث اللاحقة غيّرت اتجاه الريح، فأربكت الحركة وأثّرت على مصالحها، وبات اصطفافها موقفا تـُسأل عنه، وعدم اصطفافها موقفا تـُسأل عنه أيضا.


هذا ما يفسر الصمت الإيراني والسعودي والإماراتي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة على الرغم من فداحة حصيلته بين الأبرياء وفي البنية التحتية. وهو ما يفسر الإدانات المحتشمة للعدوان من دول كالجزائر وتونس والمغرب والكويت والأردن. حتى حزب الله آثر الصمت هذه المرة.


هذا شيء لم يكن ممكن الحدوث قبل 2011 عندما كانت، مع أول غارة إسرائيلية على القطاع، ترتفع أصوات هنا داعية إلى عقد قمة عربية، وأخرى هناك مستنفرة مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.
اليوم كل دولة عربية مشغولة بهمومها الداخلية. وكل نظام حكم مأزوم على طريقته. وأكثر من ذلك، كل دولة تضع على الطاولة حسابات الربح والخسارة وردود فعل الحلفاء والخصوم قبل أن تدلي بموقف أو تصدر بيان شجب، وتزن درجة حدته ونوع لهجته.


وتتجه المشكلة نحو مزيد من التعقيد لأن متغيرات ما بعد 2011 في المنطقة لم تفرز معسكرين واضحين متصارعين أو على طرفي نقيض. لو كان الأمر كذلك، كان الاختيار سيصبح اوضح وأسهل، وثمنه معروف ومحسوب. تلك المتغيرات أسفرت عن خارطة جديدة من العلاقات الثنائية والثلاثية المتغيرة بحسب الزمن والمكان والحدث. وافرزت شبكة جديدة من المصالح تداخل فيها الديني والعرقي والطائفي والاقتصادي والأيديولوجي. مثلا: السعودية حليف قويّ لمصر، لكن مصر تبحث عن حلف مع العراق الذي يبدو في حالة حرب مع السعودية. الإمارات على خلاف مع إيران، وإيران على ود مع سوريا. سوريا على ودّ مع مصر، والسعودية في حالة حرب مع سوريا. تركيا مع دول الخليج في الموقف من سوريا وليست معها في القضايا الأخرى. إيران ضد السعودية في سوريا، لكنها تلتقي معها في مصر بعد الانقلاب.


لسوء حظ حماس، لا يوجد في هذه الشبكة المعقدة ما يخفف من وطأة ما تتعرض له، ومن ورائها غزة، على يد آلة الحرب الإسرائيلية. اسوأ من ذلك، تلتقي أغلب أطراف هذه الشبكة حول التشفي في ما يحدث أو الصمت عن دعم الشعب الأعزل في غزة حتى لا يبدو أي كلام أو موقف دعما لحماس.


الظروف والسياقات التي تجري فيها حرب غزة الجديدة (وليس الأخيرة) يجب أن تكون درسا في السياسة والاستراتيجيا والمصالح والعلاقات الدولية.. وفي كل شيء. درس من المفروض أن تتعلم منه كل دول المنطقة. أما حماس، فهي التطبيق، أو لنقل فأر التجارب.