يوسف الديني

رغم كل هذا الدمار الذي يحل بـ«غزة» عبر جرائم الحرب الإسرائيلية التي طالت أكثر من 400 من المدنيين، كانوا وقود المغامرات السياسية الرخيصة وذلك بتحويل هذا الجزء من القطاع إلى ورقة ضغط سياسية ومحاولة أخيرة لإنقاذ معسكر الإسلام السياسي المقاوم والدول المطبّعة الراعية له التي أفاقت من صدمة خروج الإخوان المسلمين من استحقاقات الربيع العربي بهذه المفاجأة من «حماس» للالتفاف على الحالة المصرية وإعادة تثويرها، فحماس في هذا التوقيت اختارت سلاح المقاومة الفعّال باعتباره مخالب إقليمية بيد تركيا وقطر، ليس لإعادة بعث مشروع الإخوان الذي بات مجرد ذكرى مؤلمة، بل لمحاولة الدفع بهذا التحالف السياسي الذي يجمع تيار الممانعة بشقيه السني والشيعي، وبالتالي فهو ثمن سياسي كبير ووجبة تفاوضية دسمة، لكن الفاتورة الإنسانية والحقوقية كبيرة إلى الحد الذي ربما نسف شرعية ومصداقية «حماس» بالكامل لولا أن وجودها جزء من بقاء مشروع الدولة اليهودية الذي يطرح بشكل أقوى كلما أمعنت حماس في استغلال مفهوم «المقاومة» ليس على الأرض، وإنما على الشاشات ودهاليز السياسة الخفية، والتحول إلى ورقة ضغط سياسية في الداخل الفلسطيني تجاه حركة فتح التي رغم أخطائها لم تكن هي وحركات لا تتفق وآيديولوجية حماس معزولة عن توترات الصراع مع إسرائيل في صعودها وهبوطها بين خيارات المقاومة المسلحة والرهان على المفاوضات ولاحقا طالت يد الممانعة تيارات إسلامية غير مسيسة كالتيارات السلفية.
عدالة القضية الفلسطينية الآن في خطر بسبب اختطاف حماس لمفهوم المقاومة الجديد والذي يقترب من المغامرة وقد يصل إلى المقامرة بمصير الشعب الفلسطيني، هناك مسؤولية أخلاقية الآن أكثر من أي وقت مضى لإعادة تعريف القضية باعتبارها مسؤولية أخلاقية وليست قومية أو جغرافية أو دينية وهذا الحديث ليس فقط من باب المقابلة بسبب نقدي لحماس، فالخلاف مع هذا التنظيم المؤدلج والمتطرف لا يعني التغافل عن العدوان الإسرائيلي لكن تقزيم القضية واختزالها في موقف حماس غزة المنفرد عن إرادة الفلسطينيين بشكل جمعي وتوافقي، وإذا صحت الأنباء التي تشاع عن رغبة الحركة في خوض انتخابات الرئاسة فالأمر يتجاوز مرحلة الإفاقة لتيار الممانعة الإقليمي إلى الاستثمار في القضية الشائكة لإعادة الاعتبار لا سيما أن حماس رغم فشل كل النسخ الإخوانية لمشروع الدولة ما زالت تعيش ارتباك الهوية بين المعارضة والدولة، لكنها قد تحقق مكاسب كبيرة على الأرض عبر سلاح المقاومة السحري وإضعاف السلطة الفلسطينية التي تعيش مرحلة تكلس وشيخوخة على مستوى القيادة وآليات العمل، إلا أن العائق الوحيد أمام حماس ليس في دول الاعتدال التي تجد نفسها في خندق القضية وأنها تقف مع دعم الفلسطينيين بما في ذلك القطاع رغم خلافها مع حماس آيديولوجيا وعلى مستوى المواقف السياسية، العائق الأكبر هو «المجتمع الدولي» الذي ما زالت كل فصائل وتيارات الإسلام السياسي تتجاهله، ورغم تراجع دور المجتمع الدولي في المنطقة فإن حساسية الحالة الفلسطينية وما تشكله إسرائيل للولايات المتحدة قد يؤذن بالتدخل حال تفجّر الأوضاع.


الإشكالية الحقيقية ليست في تحول حماس الذي لا يبدو مفاجئا بقدر ما أنه متهور ومغامر جدا، لا سيما إذا علمنا أن كثيرا من حالات التصعيد في قطاع غزة هي بتوجيه من حماس فقط عبر تأليب مجموعات متطرفة ذات ميول سلفية، والتي تزايد عادة على تصعيد حماس وتتبنى إطلاق الصواريخ ودورات العنف في حين أن حماس تحاول تقديم هذه المجموعات كسبب الأزمة في الأبواب المغلقة، وتقديم نفسها كما فعل الإخوان سابقا كصمام أمان وضابط إيقاع لمستوى العنف والتحكم في هذه المجموعات وهي ذات الدعاوى التي كانت تطلقها جماعة مرسي حيال الأزمة في سيناء.


ما سبق ليس إدانة أخلاقية لحماس أكثر من كونه تساؤلات عن فداحة الثمن الحماسي في جرّ غزة إلى أتون الأزمة الإقليمية التي من الخطأ قراءتها بشكل منعزل ومناطقي، فما يحدث في العراق وسوريا وحتى اليمن يلقي بظلاله على حماس تأثرا وتأثيرا التي استطاعت بذكاء تضخيم رأسمالها السياسي عبر تحويل المقاومة من خيار استراتيجي للمواجهة إلى نزعة هويّة ذاتية لا يمكن الانفكاك عنها، وهو ما جعل مرشد الإخوان بديع يصفها بأنها «أكثر نموذج إسلامي مثير للإعجاب»، وقد صدق في ذلك فالنموذج الذي يجمع بين مرجعية إيران في المقاومة وأكثر الدول تطبيعا في التفاوض ويستعدي بشكل غير مباشر أكثر من يقف بجانبه، لا بد أن يثير الدهشة على الجمع بين كل هذه المتناقضات، والسؤال المطروح ماذا عن حملات «التشويه» والاتهام والصهينة التي تقودها في العادة شخصيات يسارية قومية ويغذيها ويعيد إنتاجها عبر حملات مكارثية ماكينات الإسلام الأكثر قوة وانتشارا عبر شبكات التواصل الاجتماعية؟ والجواب لا جديد سوى المزيد من الازدواجية والحيرة خاصة إذا ما استحضرنا مواقف «الخليفة التركي» ودول رعاية الأقليات المعارضة من «الكيان الصهيوني»!