طيب تيزيني

أثارت المقالة التي كتبتها منذ أسبوع ونُشرت في صحيفة «الاتحاد» أسئلة وتساؤلات وتعقيبات، يمكن حصرها وضبطها في عنوان يجمع، بحق أو من دون حق، بين «الربيع العربي» ومشروع الشرق الأوسط الجديد؛ مع الإشارة إلى أن هذا الأخير كان قبل أكثر من عشر سنوات قد برز في الأوساط السياسية الغربية وظهر بالتوازي مع ذلك، في الوسط العربي .. وقد أشرنا إلى هذا في المقالة المذكورة. ونضيف إلى ذلك ما ذكره البعض عربياً من وجود علاقة سببية بين الطرفين المعنيين، بحيث يغدو «الربيع» المذكور - بمقتضى ذلك - تعبيراً عن انتصار المشروع الشرق أوسطي في العالم العربي. وعليه، فإن ما أعلنه القائلون بـ «المؤامرة» بمثابتها السبب الحاسم الذي كمن وراء الانتفاضة الثورية السورية، أوصلوا هذه الفكرة إلى خواتيمها كما رأوها، وهي أن الانتفاضة المذكورة إن هي إلا «مؤامرة كونية» على الشعب السوري.

والحق، إن القول بكون الانتفاضة المذكورة تجد أسبابها خارج البنية الداخلية الخاصة بها، لهو أمر يدعو للأسى والألم، عدا كونه يمثل دعوة للباحثين والمهتمين لاكتشاف أسبابها خارجها، أي لإخراج موضوع البحث من التبعات التي تتصل بمجتمع محكوم من قبل نظام يعود تاريخه إلى نصف قرن تقريباً، على الأقل ، عبْر مجموعة من الإجراءات التي أنتجها النظام نفسه، وفي مقدمتها الإجراء المتمثل بـ «قانون الطوارئ» إنه ظلم فاحش بحق الوطن وساكنيه. على كل حال، نحن لا نحمِّل الداخل السوري كل ما ألمّ به من أسباب التقصير، فالآخر، الغرب الاستعماري له باع في ذلك كبير. وحين نُقرّ بهذا الوجه الخارجي في تأثيره بالداخل، فإننا بالمقابل، لا نقول بالنظر إلى الداخل السوري بصفته البداية والنهاية. فثمة مشكلات فكرية وسياسية عويصة وخطيرة أحياناً، تجد مصادرها في الخارج بصفتها «مسمار جحا».
&

&


لنضع في الحسبان ذلك الكم الهائل من العقبات التي نشأت عبر تلاقي الداخل السوري بالخارج الغربي، مثل تلك المتمثلة في العلمانية والحداثة والدولة الوطنية وبنائها، ومشكلات الدين الاعتقادي والآخر السياسي، والإشكالات المتصلة بالطوائف والطائفية، إضافة إلى الأقليات والأكثرية، ثم مسائل البناء الاقتصادي والتعددية السياسية ومشاريع التنمية والمنظومة القضائية والأخلاقية والأخرى المتصلة بالتعليم العالي والبحث العلمي، إن ذلك وغيره، لم يُجب على معظمه؛ ولسنا في معرض التفصيل الكامل. ما يجمع هذا وغيره هو المنهج العلمي، الذي كان على الدولة أن تضع تبعاته نقداً وتأسيساً وبناءً إلخ بحيث نقول: ما ظل مستبعداً من البحث، ظل يمثل تحدياً من المؤسسات الدولية والمنظمات المدنية كما الأحزاب السياسية إلخ. كانت التحولات المطلوب إنجازها ظلت آخذة المسار العمودي، دون تحقيق تعميمها أفقياً أولاً، ودون إخضاعها لحوار نقدي وطني وشعبي ثانياً، فكأنما ظهر الأمر بعد ذلك بوصفه حالة طبيعية وغير قابلة للتغيير. على ذلك النحو، الذي يضرب بقواعد التغيير والتقدم، يُراد أن يقال: إن ذلك يمثل الخصوصية الوطنية والقومية للعرب ولمن لفّ لفهم. ومن ثم، فإن من أطلق مصطلح «الربيع العربي» على الأحداث العربية منذ ثلاثة أعوام ونصف العام، إنما أصاب كبد الحقيقة وهذا بدوره، يضعنا أمام الإقرار القطعي بأن كل ما رافق ذلك من خراب ودمار وموت، إنما هو نتيجة لذلك.

من شأن ذلك أن يضعنا أمام التساؤل التالي، الذي يطرحه أولئك الذين سيقولون بعدئذ، وبشيء من التشفي: ألم تفهموا، ألم نقل لكم إن قيام الناس قبل ثلاثة أعوام ونصف العام بالتظاهر، كان خطأ مستمراً!؟ هذا القول شائع في بعض الأوساط التي ترى أن الخروج إلى الشارع للتذكير بحقوق الناس الشرعية، أمر يزعج والنظام يدعوه إلى فضّ يده من أي مشروع للإصلاح والتغيير! ومع ذلك يحتاج هذا الاعتقاد بعض التدقيق: ظل النظام مستنكِفاً عن الاستجابة لأي مطلب حق عقوداً، علماً أن أوساطاً سياسية وثقافية وشعبية كانوا يذكرونه بواجباته وظل مستمراً في الموقف إياه. فقام هؤلاء فبدأت عمليات الانتقام، بعد مظاهرات سلمية لستة أشهر، دون سلوك طريق واحد من تلك الاستجابة.

وتبقى أمام أولئك المحتجين نتائج متسرعة في النظر إلى الانتفاضة السورية هم يقول: إنها «جَلَبْ» أي مستجلبة من الخارج، والآن عبر وضعها في سياق مخطط الشرق الأوسط الجديد، العامل على توطينه في العالم العربي الراهن؛ ومن ثم، فإن «الربيع المذكور» هو ذاك المتجسد في المخطط المذكور إياه. إن دعوة حقيقية إلى قراءة دقيقة لما يحدث في ذلك العالم، تعني - أولاً بأول - العودة إلى التاريخ العربي منذ التقت بلدان عربية بالحضارة الغربية، فتكونت بفعل قوى فاعلة احتمالات اللعب بالتاريخ العربي عبر تحركات أخرى له، من مثل الاستبداد والفساد والإفساد. ولأننا لا نعني بهذه الكلمات إلا ما تعنيه، فإننا نذكر بأن الفعل التاريخي العربي الراهن لا يُختزل بـ «شرق أوسط جديد» و«بمؤامرة كونية»، وإنما هنالك الكلمة الفصل الأخيرة: إن إرادة البشر هي أقوى من السعي إلى الاستفراد بهم.
&