أكمل عبد الحكيم

فقد المجتمع الطبي الدولي نخبة من أفضل الخبراء والعلماء في مجال جهود مكافحة فيروس مرض نقص المناعة المكتسبة أو مرض الإيدز، بمقتلهم وهم على متن الطائرة الماليزية التي أسقطت بصاروخ أرض جو يوم الخميس الماضي، فوق شرق أوكرانيا. ومن بين هؤلاء العلماء، كان البروفيسور والعالم الشهير «جوب لانج» (Joep Lange)، الأستاذ بكلية الطب جامعة أمستردام، والرئيس السابق للجمعية الدولية للإيدز، وهو واحد من أوائل من أجروا دراسات وأبحاث على فيروس الإيدز منذ بدايات ظهوره في عقد الثمانينيات. وكان في صحبة البروفيسور «لانج»، خمسة علماء آخرون من أبرز وأهم الباحثين في مجال الإيدز على المستوى الدولي.

وكانت التقارير الأولية قد أشارت إلى احتمال أن يكون هناك أكثر من 100 عالم وطبيب على متن هذه الرحلة المنكوبة، متجهين لحضور مؤتمر دولي عن الإيدز، سيعقد في مدينة ملبورن بأستراليا، وبحضور 14 ألف باحث وعالم من مختلف الدول، ومن جميع الجهات، والهيئات، والمنظمات المحلية والدولية، العاملة في مجال مكافحة هذا المرض اللعين. وعلى رغم أن عدد من قتلوا في حادثة الطائرة الماليزية يعتبر قليلاً نسبياً، إلا أن أهمية الأبحاث التي كانوا يجرونها، والمجالات التي كانت محل دراستهم، وخبرتهم الطويلة في التعامل مع الفيروس، وفهمهم لتركيبه، وطريقة غزوه للجسم، ستجعل فقدانهم خسارة لا تقدر بثمن للمجتمع الطبي، ربما لا يمكن تعويضها.

وتأتي هذه الفاجعة في وقت تزايدت فيه الآمال بأنه من الممكن السيطرة على وباء الإيدز العالمي بحلول عام 2030، حسب تقرير صدر الأسبوع الماضي عن وكالة الأمم المتحدة للإيدز (United Nations Aids Agency)، بناء على أن معدلات حالات العدوى الجديدة، والوفيات الناتجة عن الإصابة، تشهد انخفاضاً تدريجياً، وإن كان الانخفاض ليس بالوتيرة الكافية لإنهاء الوباء الحالي، وهو ما يتطلب تضافر وتنسيق الجهود الدولية، وبذل المزيد من تلك الجهود. ويظهر التقرير الذي صدر بالتزامن مع المؤتمر الدولي الذي كان مخططاً للعلماء ضحايا كارثة الطائرة الماليزية حضوره، أن عدد المصابين حالياً بمرض الإيدز حول العالم يبلغ 35 مليون شخص تقريباً، منهم 2,1 مليون أصيبوا بالفيروس للمرة الأولى في عام 2013. وهو رقم إن كان كبيراً ومخيفاً، إلا أنه يشكل أيضاً انخفاضاً بنسبة 38 في المئة عن عدد حالات العدوى الجديدة في عام 2001، التي بلغت حينها 3,4 مليون شخص. وعلى ذات وتيرة انخفاض حالات العدوى الجديدة، انخفضت أيضاً معدلات الوفيات، وبمقدار الخمس، خلال السنوات الثلاث الماضية وحدها، لتبلغ حاليا 1,5 مليون وفاة سنوياً.

ويعزو العلماء هذا التحسن الواضح على صعيد الإصابات الجديدة، والوفيات الناتجة، لعدة عوامل، منها توفر العقاقير المكافحة للفيروس لعدد أكبر من المرضى، وتغير الثقافة الجنسية لدى العديد من المجتمعات والشعوب. وأحد مظاهر هذا التغير، يتضح من حقيقة تضاعف عدد الرجال الذين أصبحوا يخضعون لعملية الطهارة التي تجري على العضو الذكري، والتي أثبتت الأبحاث والدراسات السابقة أنها تقلل من احتمالات انتقال الفيروس المسبب للمرض من شخص إلى آخر.

وتظهر الحقائق السابقة مدى النجاح الباهر الذي حققته الجهود القومية والدولية في خفض حالات العدوى، وفي الوفيات الناتجة عن المرض، سعياً نحو تحقيق الهدف السادس من أهداف الألفية للتنمية، الذي ينص في البند الأول منه على عكس اتجاه ودحض انتشار فيروس الإيدز بحلول عام 2015، وفي البند الثاني على توفير العلاج لكل من يحتاجه بحلول عام 2010. ويأتي تضمين هذا الهدف، ضمن حزمة أهداف الألفية للتنمية التي أقرها أعضاء المجتمع الدولي، والتي جعلت من القضايا الصحية في مركز ومحور أي جهود رامية أو ساعية لتحقيق التنمية الدولية، وهو ما عادت لتؤكد عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، من خلال وضعها لاستراتيجيات، وخطط عمل داعمة وساعية، لتحقيق مكافحة انتشار الفيروس، وتوفير العلاج لمن يحتاجونه.

ولكن في الوقت الذي يمكن أن توصف فيه الصورة الحالية، والتوقعات المستقبلية، بأنها إيجابية، لا يمكن أيضاً أن توصف بأنها وردية تماماً. فمن بين كل 10 أشخاص مصابين حالياً، يتلقى أقل من أربعة منهم العقاقير المضادة للفيروس، والتي قد يتوقف عليها وضع أسمائهم على قائمة المصابين بالمرض ممن لا زالوا على قيد الحياة، أو قائمة من لقوا حتفهم بسبب المرض. وعلى صعيد التوزيع الدولي الجغرافي أيضاً، نجد أن ثلاثة أرباع حالات الإصابات والوفيات، تقع في 15 دولة فقط من بين جميع دول العالم، التي يقارب عددها 200 دولة. وأمام هذه الصعوبات، وما يمكن أن نطلق عليه فقدان العدالة الصحية في توزيع العبء المرَضي لفيروس الإيدز حول العالم، وفي توفر العقاقير القادرة على مكافحته، يظل الكثير من الآمال معلقاً على مجال البحث العلمي، وعلى جهود آلاف العلماء حول العالم. وبالفعل، شهدت السنوات الخمس الأخيرة، تحقيق اختراقات هائلة بكل المقاييس، على صعيد فهمنا لطبيعة عمل الفيروس، ومكوناته الداخلية، وكيفية استجابة جهاز المناعة له، بشكل لم يمكن تحقيقه في الثلاثة وعشرين عاماً السابقة على الأعوام الخمسة الأخيرة. ولذا، وربما عما قريب، سيحتل فيروس مرض الإيدز موقعاً في تاريخ الأمراض، بجوار موقع فيروس الجدري، الذي نجح البشر في القضاء عليه تماماً منذ عقود.

&