فهد عريشي

احترامنا لفكر الطرف الآخر مهما كان سيئا ليس بالضرورة أن يعني ذلك إيماننا به أو تقبلنا له بل هو دليل على حريتنا التي تأبي أن تمارس الوصاية على فكر الآخرين أو أن تقلل من شأنه أو تستحقره

&


العنصرية الفكرية هي إقصاء الفكر الآخر، والنظرة الدونية له، والاستعلاء عليه، والفجور في الخصام، والانتقائية في الاستدلال والبحث والنقاش. وأنا أتابع الأستاذ عبدالله الداود والكاتب المخضرم محمد العصيمي عبر البرنامج الحواري "في الصميم" على روتانا خليجية رأيت في فكرهما الاعتياد والقبول، وأنه يمثل شرائح عريضة في المجتمع، ففي الوقت الذي يطالب فيه الأستاذ عبدالله الداود بعدم السماح للمبتعثات بالدراسة في الجامعات العالمية دون محرم فإن هذا الرأي موافق لعاداتنا وديننا وقوانين برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، ولم يأت بجديد، وما جعل الناس يهاجمون رأيه هو وصفه لمن يخالف ذلك بعدم الغيرة على محارمه والدياثة، وهذا هو ما نسميه العنصرية الفكرية، أن يتعصب لرأيه وفكره وينظر بدونية لمن يخالفونه في ذلك، بل ويفجر في الخصومة معهم ويهاجمهم ويكيل لهم أبشع الصفات في الوقت الذي من المفترض أن يكون رأيه للتنوير ولإقناع الطرف الآخر، ومحاولة إيضاح محاسن فكره وإيجابياته على الفرد والمجتمع، لا أن يكون منفراً فينفض الناس من حوله ولو كان على حق.


وحينما تم استضافة الأستاذ الكاتب محمد العصيمي في البرنامج ذاته مارس عنصريته الفكرية من خلال إشارته للأستاذ عبدالله الداود بالمدعو ورفضه حتى ذكر اسمه؛ في تمثيل واضح لنظرته الدونية والتنقيص وممارسة الإقصاء والفجور في الخصومة ضد من يختلفون معه، ويأتي بعد ذلك بلحظات ويقول أنا من أكثر الكتاب الذين يدعون للسلم الاجتماعي، وينسى تماما بأن أول خطوة للسلم الاجتماعي هو التعايش وتقبل الفكر الآخر الذي لم يطبقه في بداية اللقاء بل كان ضده تماماً وحاول ممارسة التأجيج، وحصر الفكر الآخر في قالب أقل ما أصفه بأنه يخدش الذوق العام، ولا يسعدني أن أذكره هنا على صفحات "الوطن"، ولكن بوسع أي شخص أن يعود للبرنامج عبر اليوتيوب ليرى إلى أي مدى كان الوصف غير لائق، فما بالك أن يصدر ممن يقول إنه كاتب يحارب من أجل السلم الاجتماعي ومن أجل الفكر وإبداء الرأي..
بوسع أي شخص في أي مكان بالعالم أن يقول إن لحم البقر قابل للأكل باستثناء الهند التي لا يسع أشجع رجل فيها أن يقول ذلك.. هنا مثال على أن ما نراه صحيحا قد يراه الغير ليس كذلك، بل يراه إمعانا في الخطأ ومسا للعقيدة وكفرا، ولا يهم من يكون رأيه الصائب ومن العكس؟ ولكن المهم هو التعايش وتقبل الفكر الآخر والعمل على الترغيب فيما نراه صوابا من خلال ممارسته بحرية واحترام الطرف الآخر والتعامل معه بأخلاقنا لا بأخلاقه، وما انتشر ديننا الحنيف إلا بمكارم الأخلاق لا بممارسة العنصرية الدينية ولا الفكرية.


إن احترامنا لفكر الطرف الآخر مهما كان سيئا ليس بالضرورة أن يعني ذلك إيماننا به أو تقبلنا له بل هو دليل على حريتنا التي تأبي أن تمارس الوصاية على فكر الآخرين أو أن تقلل من شأنه أو تستحقره.
شيء إيجابي أن نكون مجتمعا متعدد التصنيفات الفكرية متى ما جعلنا اختلافنا الفكري طريقاً للحوار ووأداً للخلافات وسلماً نرتقي به للتعايش.
لم يؤسس الرئيس الروسي السابق السيد "خروتشوف" الدعائم الأولى للتعايش السلمي في الاتحاد السوفيتي والدعوة لها إلا بعد المعاناة الشديدة من "الستالينية" التي تدعو لتوحيد الفكر وتحارب كل من يختلف معها، وفي تاريخنا وديننا الإسلامي أجمل الأمثلة للتعايش واحترام الفكر الآخر وذلك في قوله تعالى: "قل كل يعمل على شاكلته فَربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا" وفي قوله: "وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون"
عقيدتنا وعروبتنا وأرواحنا الحرة وإنسانيتنا تدعونا لأن نعمل، وأن يفكر كل على شاكلته، وأن نترك الصواب لله هو الأعلم بمن هو عليه، ومن ثم نجد من يأتينا بمظهر الدين ويحسب على عروبتنا وحريتنا وديننا ويصف الناس بالدياثة ومن ثم يأتي من يلبس ثوب المصلح الاجتماعي وقيادة الرأي والفكر ويرد عليه بأن فكره مليء بالقذارة ويصنف فكره بأبشع التصنيفات.
هذا الطريق الذي يسلكه البعض لن يؤدي بنا إلا للضعف والهوان وتجييش أتباع ضد الطرف الآخر والتشتت حتى نصبح دون رؤية شاملة تجمعنا وتوحدنا لحماية مكتسباتنا الدينية والوطنية والثقافية، وسنجدنا وقد عدنا لعصر التخلف والحروب التي عانتها أمم من قبلنا، وننشغل بالاختلاف بدلا من محاولات التقارب بيننا وأن نهزمنا بأيدينا ونرفع راية الخسارة عند أول منعطف حقيقي يمس أمننا.
التعايش والأمن السلمي في ظل تعدد تصنيفاتنا الفكرية لن يتحققا إلا عندما نؤمن بأن الاختلاف سنة كونية علينا التصالح معه لا معاداته، وأن الاختلاف ميزة وليس عيبا وأن الحق واحد ولكننا نراه من عدة جوانب.

&