&أحمد عبد المعطي حجازي

&

&

&

هذا السؤال عمره من عمر تلك الحركة التى قام بها ضباط الجيش فى مثل هذا اليوم من شهر يوليو عام اثنين وخمسين وتسعمائة وألف.. وها نحن بعد اثنين وستين عاما نعيد طرح السؤال، ولا نتلقى اجابة شافية.

&

&


حين رأيت أن هذا اليوم الأربعاء الذى أكتب فيه للأهرام يوافق الذكرى الثانية والستين لحركة يوليو وجدت من المناسب أن اجعلها موضوع مقالتى، ولقد كنت فى السابعة عشرة من عمرى يوم انطلقت هذه الحركة التى غيرت حياتنا وقلبتها رأسا على عقب، وفرضت على كل مصرى أن يكون معها أو ضدها، وهناك من كانوا معها فى وقت، وكانوا ضدها فى وقت آخر.

&

&

فى سنواتها الثلاث الأولى كانت بالنسبة لكثير من المصريين وأنا منهم انقلابا عسكريا صريحا، لأنها حلت الأحزاب، وأوقفت العمل بالدستور، وقمعت عمال كفر الدوار بعنف وحشى وشنقت اثنين منهم، وعقدت للزعماء السياسيين محاكمات هزلية، واعتقلت آلافا من المعارضين كنت واحدا منهم، وإن لم أبق فى السجن ـ سجن قره ميدان ـ إلا شهرا.

&

&

لكن نظرتى لهذه الحركة تغيرت بعد الخطوات التى اتخذتها وبدت لى ولكثيرين غيرى خطوات ثورية، تحديد الملكية الزراعية وتوزيع الأرض على الفلاحين المعدمين، والمفاوضات التى انتهت برحيل الانجليز عن مصر، وقيام منظمة عدم الانحياز، وتأميم قناة السويس والتصدى للعدوان الفرنسى الانجليزى الإسرائيلى على النحو الذى ارتسمت فيه لمصر خريطة سياسية جديدة تحولت فيها حركة الجيش من انقلاب إلى ثورة، أو هكذا أصبحنا نراها ونحاسبها بالتالى على هذا الاساس.

&

&

فى السنوات الأولى كانت انقلابا لأننا كنا نحكم عليها قياسا على النظام الذى انقلبت عليه، وكان رغم كل سلبياته نظاما دستوريا يقوم على تداول السلطة واحترام الحريات، أما بعد هذه السنوات الأولى فقد أصبحنا نحكم عليها لا بما خرجت عليه، بل بما حققته من آمال عوضتنا بعض الشىء عن غياب الديمقراطية واعتبرناها أساسا شعبيا لنظام ديمقراطى قادم ظل ضباط يوليو يعدوننا به ويخلفون.

&

&

هذا الصلح الذى تحقق بين الشعب وحكم الضباط أو بين الانقلاب والثورة ظل إلى عام 1967 سائدا مرعيا، وإن تعرض لامتحانات قاسية تلا بعضها بعضا، فالعسكريون الذين انفردوا بالسلطة لم يسمحوا بوجود أى منبر حر، وإنما استولوا على كل المنابر وصادروا كل رأى مخالف، واعتمدوا اعتمادا كاملا على أجهزة الأمن التى تعاملت مع المواطنين بصورة بربرية، واعتقلوا كل المعارضين ونكلوا بهم جميعا يمينهم ويسارهم، وفى هذا المناخ المخيف تبدى حلم الوحدة العربية وانفصلت سوريا عن مصر، وسقطت كل البلاد العربية تقريبا فى ايدى العسكريين، وأصبحت الانقلابات العسكرية المتوالية طريقا وحيدا للوصول إلى السلطة وتغييرها، وتداعت النظم الديمقراطية وشبه الديمقراطية فى هذه البلاد، وانحلت معظم الأحزاب السياسية، وتبددت النخب المثقفة، وتورطت مصر فى هذه الانقلابات (الصديقة!) وخسرت فيها الكثير، خاصة فى حرب اليمن، ثم وقعت الهزيمة الساحقة، هزيمة يونيو التى فرضت علينا أن نعيد النظر فى ضوئها لما اعتبرناه ثورة، وأن نطرح السؤال من جديد: ثورة أم انقلاب؟!.

&

&

لكن هذا السؤال الذى أعدنا طرحه فى ضوء الهزيمة مازال بلا جواب، والأسباب معروفة، وأولها أن النظام الذى هزم لم يسقط، لأنه كان قد نجح فى تدمير كل بديل كان يمكن أن يتقدم لانقاذ مصر مما سقطت فيه، ولأن الهزيمة كانت فادحة مهولة بحيث وجد المصريون أن الذى تسبب فيه هو وحده الذى يتحمل جرائرها، ولهذا رفضوا من عبد الناصر أن يستقيل حين أعلن استقالته التى لا نملك دليلا على أنه كان جادا فيها، لأن استقالته معناها تعرية النظام، ونشر فضائحه ومحاكمته ومحاكمة القائمين عليه، وهو أولهم، وقد تراجع عبد الناصر فسحب استقالته وحصر التهمة فى (صديق العمر!) الذى انتحر ـ وهناك من يبنى هذا الفعل للمجهول! ـ لكن عبد الناصر لم يتحمل طويلا ما حدث له، وما تسبب فيه فلحق بصديقه بعد ثلاث سنوات ليواصل النظام بقاءه أربعين عاما كاملة لم نكف فيها عن طرح السؤال الذى أفرخ اسئلة جديدة لم نصل فيها، ولا فيه إلى جواب، فهل انتهى نظام يوليو برحيل عبد الناصر؟ وهل أقام السادات نظاما جديدا أم اكتفى بتجميل المظهر وترك المخبر على حاله؟ والسؤال ذاته مطروح على ما صنعه مبارك خلال العقود الثلاثة التى تربع فيها على كرسى العرش حتى اسقطته ثورة يناير التى وضعها مبارك فى حضانة المجلس العسكرى الذى أسلم السلطة لجماعة الإخوان الإرهابيين!.

&

&

ألف سؤال يطرح الآن على ما حدث لنا منذ الثالث والعشرين من يوليو عام اثنين وخمسين وتسعمائة وألف إلى اليوم، ولا جواب!

&

&

كيف نفسر عجزنا عن الإجابة؟هناك أكثر من سبب أولها أن مراجعة التاريخ تحتاج لوعى وشجاعة لا يتوافران لنا دائما، والتاريخ علم له مصادره، ونحن أو معظمنا نفضل أن نسمع تاريخنا من أفواه المشعوذين وكتاب الأحجبة الذين يقولون لنا إن تاريخنا السابق على الإسلام جاهلية لا تختلف عن جاهلية العرب، وهناك من يزيد، فيصف حضارتنا الفرعونية التى علمت البشرية، ولا تزال تعلمها حتى الآن بأنها حضارة عفنة أنقذنا منها الفاتحون العرب الذين ننظر لتاريخهم فى بلادنا وتاريخ من حكمونا بعدهم باعتباره نقيضا لتاريخنا القديم يستبعده وينفيه، تاريخنا قبل الإسلام عفن، وتاريخنا فى ظل العرب والأكراد والشركس والاتراك الذين استعبدونا ونزحوا ثرواتنا وفرضوا علينا تخلفهم طاهر نظيف!.

&

&

ولأن التاريخ علم فنحن نحتاج فى تحصيله لما لا نملكه، ولما نمنع من الوصول إليه، لأن السلطات الحاكمة إما أن تعتبر نفسها امتدادا لهذا التاريخ فتحصنه، وتخفى عوراته، وإما أن تعتبر نفسها انقطاعا عنه وبديلا له فتنفيه وترميه بما ليس فيه.

&

&

وهى فى الحالين تزيف الوثائق والمعلومات أو تخفيها، وتجد مؤرخين بالأجرة يكتبون لها ما تشاء، والنتيجة هى ما تجدونه فى الكتب المدرسية، وفى الصحف وأجهزة الإعلام والمسلسلات التى تتعرض للتاريخ وتكذب عليه جهارا نهارا، ولا تجد من يصحح، ولا من يرد.

&

&

وقد بحثت عن معلومات موثقة عن حركة يوليو يمكن أن أستفيد بها فى هذه المقالة، وقرأت ما كتبه عنها عبد الرحمن الرافعى، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وأسامة الغزالى حرب، وأحمد زكريا الشلق، ومغاورى همام مرسى، فضلا عما دار حولها من شهادات ومذكرات وأعمال أدبية وفنية فلم أجد ما يقنعنى بغير ما كنت مقتنعا به من الأصل، وهو أن هذه الحركة لم تكن ثورة، لأن الثورة تهدم الحاضر أو تتجاوزه لتبنى المستقبل، والذى حدث أن حركة يوليو هدمت الحاضر والمستقبل معا!.

&