&نوال السعداوى

&

&

&

فى منتصف الليل نهب من النوم، لأسباب مختلفة: المغص الكلوي، الألم المبرح لمنظر الدماء، القتل والغدر بالداخل والخارج؟ إمرأة تتفحص الجثث وتصرخ


ابني؟ رجل أعمال مضارب بالبورصة يفقد المليار. ويصرخ، الأب العائل الوحيد للأسرة يساق للسجن، والأم المعيلة بائعة الجرجير تقتلها سيارة بالطريق، والأخ أو الأخت تصاب بالسرطان أو الزهايمر.

&

وبعض الناس تهب منتصف الليل بوجع آخر، يشبه ألم المخاض قبل الولادة، لا تعرفه إلا الأمهات والكاتبات والكتاب المبدعون. وكان الإبداع يحمل أسماء مختلفة: الهوس، الهذيان، الجنون، أو مرض منتصف الليل، بلغة الأطباء المتخصصين فى الأمراضى العصبية والنفسية.

&

&

لم أدخل فى حياتى مكتب وزير الثقافة، بالبديهة أو مايسمى الحدس أو الحاسة السادسة أو بقرون الاستشعار. وقد أدركت أن الثقافة الحقيقية مثل الحب والابداع والتمرد والثورة كلها لا تخضع لتوجيهات السيد الوزير أو السيد الرئيس أو الجهات العليا، فلاشيء يعلو على العقل الإنسانى المبدع للأفكار الجديدة العظيمة التى تغير عقول الناس وحياتهم وأخلاقهم وسلوكهم الى الأفضل والأعدل والأكثر حرية وجمالا.

&

&

ربما نحتاج لوزارة للتجارة، من أجل التحكم فى جشع التجار الغريزى وشهوتهم اللامحدودة للربح والمضاربات، وبشرط أن يكون وزير التجارة والعاملون معه من غير التجار ومن غير عاشقى حرية السوق، وقد نحتاج لوزارة الصحة من أجل التحكم فى جشع الأطباء وتعطشهم للدم، وبشرط ان يكون وزير الصحة والعاملون معه من غير الأطباء أو الحانوتية والجزارين. ولسوء حظى أصبحت طبيبة بشرية، واضطررت للعمل ثلاثة عشر عاما مع خمسة أو ستة من وزراء الصحة، انتهت باستقالة من سطر واحد كالآتي: صحة الناس ربما تتحسن لو ألغيت وزارة الصحة.

&

&

الشعب المصرى ليس الشعب الوحيد المنكوب بحكوماته ووزاراته، فالمشكلة عالمية، لها جذورها التاريخية فى الحضارة الطبقية الأبوية التى بدأت بفكرة معادية للعقل تقول ان المعرفة خطيئة، وتمت إدانة المرأة المبدعة لأنها قطفت الثمرة المحرمة،

&

&

ورثت وزارات الثقافة فى بلادنا ( والعالم) هذه الفكرة المعكوسة المدمرة للبديهة، فالمعرفة فضيلة الفضائل، كلما تزود العقل بالمعرفة ازداد إبداعا. وكلما اقترن الإبداع بالحرية ازداد جمالا ومعرفة، وهل يمكن لعصفورة مخنوقة بحبل أن تغرد بصوت عذب؟ وهل يمكن لطفل مذعور بالضرب التعبير عن نفسه بصدق؟

&

&

لم تطأ قدمى مكاتب وزارة الثقافة فى حى الزمالك بالقاهرة ، ونالنى منها الكثير من الأذى والقمع والمنع والحرمان من الجوائز والمناصب فى المجالس الثقافية الرفيعة المستوي، وأهم من ذلك مصادرة كتاباتى التى دمغت بوصمة المعرفة، أو عدم الخضوع لقائمة الممنوعات والتوجيهات العليا.

&

&

فى سنوات المنفى شغلت نفسى بتدريس الإبداع والتمرد والكتابة، فالمرأة المقهورة لا تتمرد إلا بعد أن يدركها الوعى بأسباب القهر المصنوع بالبشر وليس بالطبيعة أو الإله يهوه، أول من أدان المعرفة فى التاريخ، تبدأ المرأة فى التمرد مع ازدياد وعيها، الذى يقودها الى الإبداع والتمرد والثورة لاقتلاع أسباب القهر، من المجتمع والدولة والدين والعائلة والبيئة والعقل ذاته. ولهذا تعمل الحكومات ووزاراتها الثقافية والإعلامية على إقصاء الكاتبات المبدعات والكتاب المبدعين عن جميع المجالات ذات التأثير على عقول الجماهير.

&

&

فى مكتب وزير الثقافة ووزير الإعلام ( والصحة أيضا والداخلية والشئون الاجتماعية) توجد دائما قائمة بأسماء الممنوعين والممنوعات من دخول الجنة، وكان اسمى ضمن هذه الأسماء فى جميع العهود والحكومات، قبل وبعد الثورات. حاولت إقناع بعض العقول، القريبة من مراكز اتخاذ القرارات، لإنشاء قسم لتدريس الابداع والكتابة والتمرد فى كلية الآداب أو أى كلية بأى جامعة مصرية، دون جدوي.. كلمة »تمرد« كانت سلبية حتى بدأت حركة شبابية تحمل اسمها، تظهر حينا وتختفى أحيانا، حسب مواسم الانتخابات، وهى حركة سياسية أكثر منها ثقافية الإبداع، خاصة الكتابة المبدعة لاتنال العناية ولا التشجيع المطلوب لمقاومة الإرهاب الفكرى الذى يقود للسلوك الإرهابي.

&

&

الكتابة، أهم الإبداعات الإنسانية فى التاريخ، وليس البورصة أو السوق، من الكائنات الحية جميعا لا يكتب إلا الإنسان، لا أحد من الناس لايهب فى منتصف الليل بفكرة مفزعة، والأفكار المبدعة مفزعة بالضرورة. وأغلب الأطفال، بنات وأولاد، يحتفظون بمفكرة تحت الوسادة، يسجلون فيها أفكارهم ومشاعرهم، لايفصلون بين التفكير والشعور، ولا بين الجسد والعقل وهنا سر الابداع.

&