حسين شبكشي

أحداث غزة والعدوان الإسرائيلي المجرم على أهلها بشكل همجي ليست هي المسألة الأساسية هنا، فحجم الإجرام الإسرائيلي ليس بجديد، فهو فصل جديد مؤلم في قصة حزينة متكررة وطويلة، والمظلمة الفلسطينية هي كذلك نتاج تخاذل وخيانة وإجرام الكثيرين بحق القضية الشريفة العادلة التي لا خلاف على أحقيتها.


وكانت دوما كل جولة من جولات الإجرام الإسرائيلية بحق الفلسطينيين تنال حقها ونصيبها من التغطية الإعلامية المنحازة جدا لصالح إسرائيل. وذلك في المطبوعات والقنوات الإخبارية الغربية، فكانت المقاومة الفلسطينية «إرهابا»، ودائما ما كان المحتل الإسرائيلي «مستوطنا»، وغيرهما من المفردات المثيرة للجدل والتي تخلط الحق بالباطل لأجل «زغللة» الصورة في عيون المشاهد وحتى ترتبك الرؤية لديه فيعجز عن معرفة الصواب ويقاد إلى نتيجة تتحكم فيها رغبات سياسية كثيرة.


إسرائيل ترعرعت على هذه الوسائل، وكانت دائما تحصد ما تزرعه من أفكار، وجعلت أي وسيلة أو محاولة لنقدها هي جريمة ومعاداة للسامية أيا كان نوع النقد هذا، وسقط بسبب ذلك الأمر العديد من الضحايا، صحافيين وإعلاميين مرموقين، كل جريمتهم أنهم خالفوا اتجاه طيران السرب وقالوا شيئا مخالفا، شيئا هو أقرب للحقيقة، ونالوا العقاب الرادع بحقهم، ففصلوا وحرموا من وظيفتهم، ولم يتمكنوا من أن يعيدوا البريق لأنفسهم مجددا أبدا.


ولكن في العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة هناك شيء ما مثير للدهشة يحدث. وسائل الإعلام الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي أحدثت انقلابا وثورة لا يمكن إغفالها، وخرجت السيطرة وأدوات التحكم من إسرائيل والإعلام الداعم لها بشكل مطلق وهستيري، فاليوم هناك «بدائل» للمتلقي، بدائل تتيح له الخيار في المصدر وكذلك المشاركة في صناعة الخبر.


إسرائيل وجدت نفسها في مأزق، فهي لم تعد قادرة كما كانت تفعل في السابق على أن تروج للغرب أنها «الضحية» وسط محيط هائل من الأعداء المتطرفين، وأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة ذات القيم المشتركة مع الغرب المتحضر وسط «أوباش ومتخلفين وإرهابيين». فاليوم الغرب بات يتلقى الخبر من أكثر من مصدر، وهناك أصوات تتحرك وتشكل رأيا عاما وتفضح بشكل فوري أي كذب أو خطأ أو تضليل تماما كما حدث في بدايات التغطية الإعلامية للعدوان الإسرائيلي على غزة مع قناة «إن بي سي» الأميركية ومراسلها محيي الدين، الذي كان من أبرز المراسلين الذين غطوا ما حدث بمهنية ومصداقية وتوازن.


وطبعا كان لا بد له أن يظهر الوقائع كما هي خصوصا عندما قامت إسرائيل بعمليتها الوحشية بقتل أربعة أطفال يلعبون كرة القدم على أحد شواطئ غزة، وارتأت إدارة التحرير بالمحطة أن محيي الدين كان «متعاطفا» مع أهل غزة ومعاديا لإسرائيل، فقامت فورا بسحبه من غزة ومنعه من التغطية، وما هي إلا لحظات حتى انفجر غضب المتابعين له على صفحات الـ«فيسبوك» و«تويتر»، أشهر وسيلتي تواصل اجتماعي، وأبدوا غضبهم الشديد ونقدهم الحاد جراء قرار المحطة الأميركية المثيرة للجدل، وطبعا اتهموا المحطة بانحيازها السافر جدا لصالح إسرائيل، ولم يمض من الوقت إلا يومان حتى رضخت المحطة للضغط الشعبي الهائل وأعادت محيي الدين إلى غزة مجددا ليواصل تغطيته.
كان ذلك مؤشرا على أن الموضوع لم يعد كما كان عليه في السابق، وفي أكثر من مقابلة تلفزيونية على أكثر من محطة كان بعض المعلقين والمذيعين «يتجرأون» على ضيوفهم من إسرائيل ويواجهونهم بأسئلة «حادة» وغير مقبولة في الأيام السابقة، لكنها مستلهمة مما يحصل على الجبهة الإعلامية الافتراضية. بل إن هناك مقالات صادرة في أميركا نفسها تعتبر أن إسرائيل قد «خسرت» المعركة الإعلامية مع الفلسطينيين هذه المرة.


القرار العسكري الإسرائيلي بالاعتداء على غزة ثمنه لن يكون على ساحة المعركة العسكرية، ولكن حتما ستشعر إسرائيل بمرارته على الساحة الإعلامية.