سليمان تقي الدين
&
لا جدال أن مقاومة "غزة" للعدوان "الإسرائيلي" أظهرت تطوراً نوعياً يشمل السلاح والتقنيات والوسائل وأشكال الحماية والدفاعات، فضلاً عن إرادة القتال والاستعدادات النفسية والتنظيم وإدارة معارك الميدان . حملت "صليات الصواريخ" بُعداً جديداً للمواجهة بانتظام إطلاقها ومداها والأهداف التي وصلت إليها.
&
بهذا المعنى كانت هناك مواجهة ولو على تفوق لا جدال فيه للتقنية "الإسرائيلية" وتطور الأمر إلى تصادم بطولي حين اقترب العدو من حدود غزة وحاول تحقيق بعض الإنجازات على الأرض تحت ذريعة تدمير الأنفاق.
&
لكن ذلك كله أظهر كذلك الفجوة العميقة بين ما يتمتع به المجتمع "الإسرائيلي" وذاك الذي يملكه المجتمع الفلسطيني بصورة مأساوية . فلا ملاجئ في غزة ولا شبكة خدمات بالحد الأدنى المقبول كفرض مواجهات حربية اتخذت بُعداً كلاسيكياً . أي كانت المواجهة "حرباً" بين طرفين دون أي مقومات للتكافؤ وكأن غزة أشبه بدولة في مواجهة دولة . لذلك يتساءل المرء عن معنى الاعتماد على القوة الصاروخية في المقاومة دون أن يكون ممكناً توفير الحماية بالحد الأدنى للمدنيين . فقد جاءت حصيلة المعارك خسائر هائلة في المدنيين وفي البنية المدنية في حين اقتصرت خسائر العدو على بعض الجنود بعد الاشتباك البري.
&
هناك يطرح السؤال عمّا إذا كانت هذه المعركة مدخلاً لتسوية طويلة الأمد من التهدئة يستعيد القطاع خلالها تطوير أوضاعه بعد أن يحقق مطلب "فك الحصار" أم أنها أسلوب شبه وحيد أو استراتيجية ثابتة في محاولة تنمية هذا النوع من القدرات العسكرية؟ عندها يكون تقييم المواجهة مختلفاً وتكون الحاجة إلى مراجعة هذه السياسات.
&
بعد تجربة سبعة عقود من المقاومة وما جرى تقديمه من تضحيات هناك الكثير من الضعف في الاستثمار السياسي . تتحمل القيادة الفلسطينية جزءاً من المسؤولية وجزءاً آخر مهماً يقع على المتغيّرات العربية والدولية . قضية فلسطين الآن لا تحظى بالدعم الدولي الذي كان لها في سبعينات القرن الماضي . ولا هي كذلك في الموقع الذي كان لها لدى العرب دولاً وشعوباً . عدا الجانبين السياسي والمعنوي هناك نقطتا ارتكاز مادية تمثلتا في اتفاقية أوسلو 1993 وسلطة رام الله، والانسحاب من غزة عام 2005.
&
إنها هوامش للإدارة الذاتية معلقة على الكثير من القيود والمراقبة والتحكّم من سلطات الاحتلال وهذا ما تحاول مقاومة غزة رفعه . لكن هناك خلل واضح في إدارة الحياة المدنية بأفق توفير مقومات الصمود وتماسك المجتمع الفلسطيني فضلاً عن الانقسامات والنزاعات السياسية التي أضعفت الوحدة الوطنية وأوهنت الترابط بين مستويات النضال الفلسطيني المحكوم بهذه التجزئة الجغرافية.
&
وفي ظل الأوضاع العربية الراهنة تراجع الاهتمام على عدة مستويات بالقضية الفلسطينية، فكل دولة عربية منشغلة بمشكلاتها الداخلية وأكثر بالتجاذبات الإقليمية التي تنظر إلى "الساحة العربية" كفريسة لاقتسام النفوذ.
&
هناك جهد رئيسي مطلوب من الفلسطينيين لكي يحافظوا على وحدة قضيتهم ويمنعوا إدماجها مجدداً في نزاعات المنطقة . ففي أفق المنطقة اضطراب طويل الأمد قد يؤدي إلى تغيير في خرائطها السياسية والجغرافية فلا يجوز للفلسطينيين أن يربطوا مصير قضيتهم بهذا النوع من النزاعات وهم ليسوا طوائف وقبائل وليسوا بعد في مشكلات تتعلق حقيقة بالصراع على السلطة حيث لا دولة ولا سلطة مستقلتين.
&
ربما أحسّ الفلسطينيون هذه المرة في مواجهتهم البطولية وفي تضحياتهم وفي إدارتهم السياسية أن جميع القوى الإقليمية ابتعدت عنهم فعلياً أو هي غير قادرة على تقديم أي دعم جديّ وفاعل لوقف العدوان . فهل يدرك الفلسطينيون أن علاقاتهم بدول الجوار العربي في الحد الأدنى قدر جغرافي وسياسي تبقى له الأولوية على ما عداه من علاقات وسياسات؟
&
المهم طبعاً أن يتوقف العدوان ثم أن يراجع الفلسطينيون هذه التجربة في ضوء دروسها وأثمانها.