جاسم بودي

عندما يتعلق الأمر بعدوان إسرائيلي غادر على شعب غزة لا يمكننا إلاّ الانحياز الشرعي والأخلاقي والإنساني والوطني والعربي الى هذا الشعب الذي رفع الرأس بصموده ومقاومته، فالاستطراد في التحليل السياسي يعتبر هروباً من تحديد الموقف في ظل مواجهة الاجساد العارية لأعتى آلة عسكرية شيطانية، ووضع المسؤولية على هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك بحجة الواقعية رائحته في هذه المرحلة تحديدا تشبه رائحة البارود الحاصد للارواح.

بغض النظر عن توظيف الفصائل الفلسطينية للنزاع في أجندات اكبر، وبغض النظر عن غياب مرجعية فلسطينية واحدة نتيجة الصراع الطويل بين «فتح» و«حماس»، وبغض النظر عن غياب مشروع فلسطيني موحد... فإن مسؤولية ما جرى في غزة تقع تحديدا على عاتق إسرائيل والولايات المتحدة.

كم كان بعض العرب اغبياء وهم يستبشرون خيرا بوصول باراك أوباما الى البيت الابيض وبالخطاب الذي ألقاه في مطلع ولايته الاولى في جامعة القاهرة. يومها «طق الصدر» مرارا وتكرارا عن أولوية القضية الفلسطينية وضرورة حلها. بدأ الامر بلجنة فأخرى فنسيان فتجاهل. ثم عاد ملف السلام الى السبات الكبير مع خلافة جون كيري لهيلاري كلينتون في وزارة الخارجية ومع إعلان الإدارة الأميركية حيادها في ما يتعلق بكل الملفات الملتهبة في العالم العربي. حصلت جلسة مفاوضات واحدة طويلة أعقبتها جلسات متفرقة وزيارات قليلة ثم ترك الامر لبنيامين نتانياهو كونه الاقدر من وجهة نظر البيت الابيض على ادارة السياستين الأميركية والإسرائيلية في ما يتعلق بفلسطين... هذا هو الكلام الواقعي الوحيد وغيره اضغاث احلام، وجميعنا يذكر الاستقبال العاصف المرحب بنتانياهو في الكونغرس حيث وقف له الاعضاء مصفقين لخطابه البشع اكثر مما وقفوا لرئيس أميركي.

في كل القضايا الملتهبة شرق أوسطيا كان أوباما يتعمد الحياد بأشكاله الفجة حتى ولو انتقص ذلك من مصداقية الولايات المتحدة. كان يرى الضحايا يتساقطون بعشرات الآلاف ويدير ظهره لهم مكتفيا بشعارات ومواقف ملتبسة واحيانا كاريكاتورية... الا في موضوع إسرائيل حيث يصبح الحياد انحيازا اعمى مطلقا للدولة العبرية. تهزه رجفة عين إسرائيلي خوفا من صاروخ سقط قربه ولا ترمش عينه لحفلة الشواء الإسرائيلية لاطفال غزة ونسائها وشيبها وشبانها. يتصرف وكأنه فوجئ بالحرب ويدير ظهره لكل العوامل التي أدت الى الحرب وأهمها مسائل الحصار والتجويع والاستيطان والتمدد والقمع والاعتقال، وكلها عوامل في صلب المحادثات التي اشرفت عليها ادارته.

مرة اخرى يتفق أوباما مع نتانياهو في اجبار الفلسطيني على احد امرين: إما أن يكون قتيلا نتيجة التعذيب في الاعتقال أو الجوع أو المرض أو القهر وإما ان يكون شهيدا بمقاومته وانفجاره ورد القهر بالقوة.

أما رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو فأثبت هو الآخر ان مجرمي الحرب اغبياء في السياسة وضيقو الافق. لم يحقق شعار الامن لشعبه ولم يستطع اخماد شعلة المقاومة. بل على العكس من ذلك اعاد بسياسته الحمقاء وهج القضية الفلسطينية الى ما كان عليه، واسقط مرة جديدة نظرية القوة التي لا تقهر واعطى الفلسطينيين بمن فيهم من يعارضون «حماس» أملاً كبيراً بان المقاومة طريق فاعل لتحصيل الحقوق وان الموت بكرامة افضل الف مرة على العيش بالذل.

كم هو الفارق كبير بين تصريحات الادارة الأميركية اليوم التي رأت ان استخدام القوة المفرطة في غزة امر يدعو الى القلق، وتصريحات ادارة جورج بوش الاب حين سمى يومها وزير الخارجية جيمس بيكر الامور بأسمائها وقال ان اسحق شامير رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك شخص لا يلتزم بوعوده لا لجهة فك الحصار ولا لجهة وقف الاستيطان واعلن مقاطعة البيت الابيض له الى ان يلتزم تعهداته واعطاه على الهواء رقم البيت الابيض طالبا منه الا يتصل الا اذا اراد فتح كوة في جدار السلام... طبعا الامور لم تتغير كثيرا على الارض لكنها أثمرت في ذلك الوقت اتفاقات وأعادت حلم الدولة الى الفلسطينيين.

يبقى ان نذكر الموقف المشرف لأمير الكويت سمو الشيخ صباح الأحمد في التعاطي مع قضية العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد وجه سموه منذ اليوم الاول الديبلوماسية الكويتية الى التحرك الفاعل في المحافل الدولية التي يجب ان تتحرك فيها، وعقدت اجتماعات عربية ودولية بطلب من الكويت، واستقبل سموه الامين العام للامم المتحدة لوضع المنظمة الدولية أمام مسؤولياتها تجاه العدوان الغاشم، كما استقبل مسؤولين فلسطينيين وحضهم على التعاون والخروج بكلمة واحدة لانهاء معاناة الشعب الفلسطيني، اضافة الى تحرك لافت لرئيس مجلس الامة تجاه البرلمانات العربية والدولية، وتقديم الكويت مساعدات إغاثية وإنسانية عاجلة لكفكفة الدمع ومحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه. أما ما هو غير معلن في تحرك القيادة الكويتية على المستويات الخليجية والعربية والدولية فأكثر مما هو معلن والتاريخ سيكشفه في الوقت المناسب.

ما تقوم به الكويت ودول عربية لنصرة غزة واجب تلقائي تفرضه معطيات شرعية واخلاقية وإنسانية ووطنية وعربية، هي جهود لتضميد الجراح. جهود لخدمة الحل، انما المشكلة الاكبر تكمن عند سيد البيت الابيض الذي ارسى بالباطن والظاهر مشروع ادارة السياسة الأميركية تجاه الفلسطينيين على شركة بنيامين نتانياهو لتكديس الموتى... من دون دفنهم.

مجرم الحرب ليس من يطلق الرصاص فحسب.
&