فيصل القاسم

حذرنا منذ الأشهر الأولى للثورة السورية من تكرار السيناريو الجزائري في سوريا بحذافيره. واعتمدنا وقتها على معطيات موضوعية صلبة، فالنظامان الجزائري والسوري متشابهان في الكثير من النواحي، فهما يقومان بالدرجة الأولى على المؤسستين الأمنية والعسكرية. صحيح أن كل الأنظمة العربية تعتمد على المخابرات والعسكر، لكن الطبيعة الأمنية والعسكرية للنظامين الجزائري والسوري تنفرد عن البقية من حيث عمقها وتشابكها وصلابتها. ربما يختلف النظام الجزائري عن السوري بأن الرئيس في الحالة الجزائرية هو مجرد واجهة للعسكر والأمن، بينما يظهر الرئيس في سوريا على أنه المحرك والآمر للمؤسستين العسكرية والأمنية. مع ذلك، هناك من يرى أنه حتى ذلك الاختلاف غير موجود، فبعض جنرالات الأمن السوريين يتفاخرون في جلساتهم الخاصة بأنهم هم صانعو الرؤساء، وليس العكس. ويذكر أحد كبار الجنرالات السوريين حرفياً أن المؤسسة الأمنية ارتأت بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد أن يستمر الحكم في شخص ابنه بشار، وكان لها ما ارتأت، وما أرادت. ونظراً لتشابه النظامين السوري والجزائري، فكان لا بد من تعاون وحتى تواطؤ بينهما للحفاظ على تلك التركيبة الفريدة في الحياة السياسية العربية.


من المعروف للجميع أن النظام الجزائري وقف مع نظام الأسد منذ اللحظة الأولى، وقد شاهدنا ممثل الجزائر في اجتماعات الجامعة العربية يعارض كل الإجراءات التي لجأت إليها الجامعة لمعاقبة النظام السوري. ولم يتوقف الدعم عند الجانب الدبلوماسي والسياسي، بل امتد إلى الجانب العسكري والأمني، بحيث يؤكد بعض العارفين على أن الجزائر قدمت دعماً عسكرياً ومخابراتياً كبيراً للرئيس السوري. والأهم من ذلك أنها ساندته بخططها وألاعيبها الأمنية المجربة منذ تسعينات القرن الماضي في المواجهة مع الإسلاميين، خاصة وأن نظام الرئيس حافظ الأسد كان بدوره قد قدم خبرته في قمع الاخوان المسلمين في الثمانينات لنظيره الجزائري في التسعينات. وكان لا بد من رد الجميل. ولا يخفى على أحد أن هناك عاملاً مشتركاً آخر يلعب لصالح النظام السوري، فالعلاقات بين الجزائر وإيران لها خصوصية. ولعلنا نتذكر أن الجزائر كانت تقوم برعاية المصالح الإيرانية أيام القطيعة الدبلوماسية بين أمريكا وإيران، مما يجعل نظام الأسد والجزائر وإيران حلفاً واحداً.


البعض يحاول أن يفصل بين الوضعين السوري والجزائري بالقول إن ما حدث في الجزائر في بداية تسعينات القرن الماضي لم يكن ثورة شعبية بأي حال من الأحوال كما هو الوضع في سوريا، وبالتالي، فلا مجال للمقارنة. لكن الحقيقة أن الوضعين متشابهان إلى حد كبير، فما حدث في الجزائر أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ فازت في الانتخابات وقتها بنسبة كبيرة، فانقلب الجنرالات عليها، ولاحقوها ووصموها بالإرهاب، فدخلت معهم في صراع مشروع على اعتبار أنها كانت وقتها تمثل الضمير الشعبي المطالب بالتغيير والانعتاق من قبضة العسكر، فتطور الصراع بين نظام مستبد وحركة شعبية.


ولو نظرنا إلى الوضع السوري سنجد أنه قريب جداً من الوضع الجزائري. صحيح أن الشعب السوري انتفض بشكل عفوي دون وجود حركات إسلامية أو سياسية تقوده، إلا أن النظام عمل لاحقاً على إلباس الثورة لباساً إسلامياً متطرفاً، فأخرج الكثير من القادة المتطرفين من سجونه، وفتح الحدود أمام المتطرفين الأجانب كما يؤكد الدبلوماسي السوري بسام بربندي، وسمح لهم بمقاتلته كي يظهر أمام السوريين والخارج على أنه يواجه جماعات إسلامية إرهابية متطرفة. ولا ننسى كيف تلاقت لاحقاً مصالح النظام مع مصالح «داعش» وغيرها في ضرب الحراك الثوري المتمثل بالجيش الحر، وتحويل الأنظار من الثورة الأصلية إلى الجماعات المتطرفة.


لسنا في واقع الأمر بحاجة للكثير من الجهد لرؤية ملامح التشابه في طريقة التعامل مع حركات المعارضة في التجربتين الجزائرية والسورية. عندما أراد النظام الجزائري أن يحبط تحركات خصومه ألبسها ثوباً إسلامياً متطرفاً، وراح يواجهها على أنها إرهاب. لا بل وصل الأمر به إلى تصنيع حركات إسلامية جهادية إرهابية في أقبيته الأمنية، ووجهها للقيام بالكثير من الأعمال الإرهابية حتى ضد مؤسسات الدولة الحيوية، وذلك كي يعطي لنفسه المبرر في سحق الحراك الشعبي أو أي قوى معارضة، بحجة أنها إرهابية. وقد لاقى نظام المخابرات الجزائري وقتها دعماً داخلياً ودولياً كمكافح للإرهاب. من منا لا يتذكر جماعة «الجيا» الجماعة الاسلامية المسلحة التي صنعها نظام الجنرالات كي يواجه بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وظل نظام الجنرالات يخوض معاركه ضد خصومه على مدى عقد كامل من الزمان مستفيداً من همروجة الإرهاب، وانتهى الأمر بانتصاره، وفرض شروطه على الخصوم وعلى الشعب الجزائري الذي نسي كل مطالبه السياسية، وقبل بشروط الجنرالات بعد أن أوصلوه إلى وضع كارثي مزر جعله يقبل بالعودة إلى حضن النظام بعد أن قدم له الجنرالات البديل الاسلامي المتطرف على مدى سنوات، وخوفوه به ليل نهار، فتمكن النظام بألاعيبه و»مصالحاته» وحركاته «الوئامية» الأمنية من إعادة البلاد إلى بيت الطاعة دون أن يقدم تنازلاً واحداً من قبضته الأمنية والعسكرية على مقاليد الحكم في البلاد.


لاحظوا الآن نفس السيناريو في سوريا، فلا ننسى مثلاً أن النظام الجزائري ترك بعض المناطق تحت قبضة بعض الجماعات، كما يفعل النظام السوري الآن في شمال سوريا. والهدف من ذلك تركها تعاني من التهميش وسطوة المتطرفين بحيث تتوسل العودة إلى حضن الدولة فيما بعد. في الآن ذاته يتكرر السيناريو الجزائري سورياً في لعبة «المصالحات» المفروضة بالحديد والنار والتجويع والتركيع وفرمانات العفو الكاذبة؟ قارنوا قانون الوئام والمصالحة الجزائري مع المراسيم السورية الجديدة التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن الجزائرية. يسمونها مصالحات، وعفا الله عما مضى، بشرط أن يعفو الشعب عن كل ما اقترفه النظام، وأن لا يطالب بأي تغيير سياسي، وأن يبقى كل شيء على حاله، تماماً كما حدث في الجزائر، حيث بقي نظام الجنرالات كما هو رغم موت مئات الألوف من الجزائريين، وخراب البلاد. لاحظوا أن خطاب القسم للرئيس السوري لم يتضمن تنازلاً واحداً للشعب رغم تهجير نصف الشعب وقتل مئات الألوف وتدمير مناطق بأكملها، ناهيك عن أن العارفين ببواطن الأمور في سوريا يتحدثون الآن عن تقوية الأجهزة الأمنية وجعلها أكثر صلابة، مما يعني أن النظام يريد أن يستمر في نظامه الأمني بشكل أعتى.
لكن مع الاعتراف بالكثير من التشابه بين الجزائر وسوريا، فلا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الوضع مختلف تماماً، من حيث الموقع الجغرافي، والتركيبة الديموغرافية والعامل الاقليمي والعربي والدولي. لكن بما أن النظام السوري يعتقد أن القبضة الأمنية هو علاج لكل شيء، فهو يظن أن التجربة الجزائرية يمكن أن تولد من جديد في سوريا. لكن ذلك لا يعتمد بأي حال من الأحوال على رغباته وخططه، بقدر ما يعتمد على النوايا الدولية، فلو كان هناك نية دولية لإبقائه سينجح النموذج الجزائري. لكن عندما نسمع أحد منظّري النظام عماد فوزي شعيبي يقول: «لا أحد بالمطلق (بمن فيهم النظام) يعرف كيف سيكون غد سوريا»، عندئذ يصبح تشبيه الوضع السوري بالجزائري كتشبيه المريخ بالبطيخ لمجرد تشابه بعض الحروف.