محمد الرميحي

محطة الإذاعة (والتلفزيون مؤخرا) البريطانية، هي مؤسسة قديمة ورائدة في الكثير من تاريخها الطويل، كما الإذاعة العربية منها، والأخيرة تنتمي إلى تلك المصفوفة من شبكة الإعلام النابعة من الحكومة البريطانية، بجانب تاريخها، هي ربما الأكثر انتشارا وسماعا في عالمنا العربي، خاصة بعد انتشار بثها على الموجات القصيرة في معظم البلاد العربية (معك في كل مكان)! الأمر الذي يجعلها مؤثرة في قطاع واسع من العرب، على مختلف سوياتهم الثقافية والاستيعابية، من هنا تأتي أهميتها، وأكاد أقول خطورتها، حيث إن المنطق يقودنا إلى نتيجة طبيعية، أن الحكومة البريطانية لا تتبنى هذه المصفوفة من شبكات الإعلام، لأنها مغرمة فقط بتقديم خدمة إخبارية وتحليلية لنا، أي للجمهور العام، بسبب سواد عيوننا، لا بد أنها تهدف إلى تحقيق أغراض، قد لا تكون ظاهرة للعيان، أساسها توجيه الرأي العام في القضايا الدولية، والأمر ذلك فإن المنطق مرة أخرى، يقول: إنها ليست بالضرورة محايدة وموضوعية.
فهذه المؤسسة الضخمة والمؤثرة ليست بعيدة عن سياسات الحكومة البريطانية الراعية والممولة لها، وإن كانت بشكل غير مباشر. ولكنها أيضا إحقاقا للحق، تتمتع باستقلالية نسبية في بثها إلى الداخل البريطاني بسبب الرقابة والوعي الشعبي، الذي يفتقد في البرامج الموجهة باللغات الأخرى، ومنها العربية، تلك حقائق يعرفها كثير من المتابعين.


في السنوات الأخيرة، ضعف أو ربما اختفى، لأسباب كثيرة، المؤشر المهني لهذه المؤسسة، وخاصة الموجه إلى الجمهور العربي، وبالتالي أثر في حيادية المؤسسة ومهنيتها، فأصبح التأثير القادم من هذه المؤسسة على المستمع العربي ينتهي بالسلب وليس الإيجاب.


شخصيا لديّ قبل أكثر من عشرين عاما تجربة مباشرة، وقتها كان الاحتلال العراقي للكويت عام 1990. وكانت المشاعر متأججة والخطب عظيما. المؤلم أن بعض المناط بهم العمل وقتها في البرنامج العربي فاضت مشاعرهم الشخصية على الموضوعية في الطرح، فمالوا تحيزا إلى شبه تمجيد بالديكتاتور، من خلال إما تعليقاتهم المذاعة أو شخوص من يستضيفون في برامجهم. الحال بعد ذلك تدهور إلى الأسوأ في السنوات الأخيرة، من زوايا متعددة أكثرها وضوحا أربعة عوامل أساسية، أريد أن أضعها أمام القارئ، لسبر غور ذلك التراجع المهني، رجاء في تقويمه.


أولا: نتيجة الضغط الكبير على الميزانية المتاحة للمؤسسة ككل، عانى القسم العربي من تخفيض مالي كبير، وأصبحت الإذاعة من بعده تردد برامجها لأكثر من عدد أصابع اليد الواحدة في فترات متقاربة، فتسمع البرنامج مثنى وثلاث ورباع وربما أكثر، حتى أصبحت تلك البرامج طاردة للمتلقي أكثر منها جاذبة له، وقد استعيض عن البرامج الدسمة التي تناقش الشؤون والقضايا الدارجة، ببرامج خفيفة متوفر أكثرها في المحطات المحلية، فافتقدت ذلك الصيت القديم كقوة حضارية وتنويرية، وأصبح شعار المحطة المردد (متابعة رصينة وموضوعية لحظة بلحظة) شعارا يثير الابتسام، لأن ما يحقق على الأرض عكس ذلك تماما.


ثانيا: تدني التدريب لكثير من العاملين، خاصة في البرامج الحوارية، فلم يعد (مُعد وبالتالي مقدم) البرنامج الحواري متمكنا كما كان الرواد الأوائل (هو أو هي) في الموضوع الذي يديره في الحوار، ولعل اللازمة التي نسمعها من كثيرين في تلك البرامج الحوارية هي عبارتان.... (وما إلى ذلك) و.... (بماذا ترد)؟ حتى أصبحت ممجوجة، عدا القصور في فهم وعرض الموضوع الذي يناقش، والتدخل المباشر فيما لا يعجب المذيع من القول الصادر من الضيف!
ثالثا: كما يلاحظ محدودية قائمة (الخبراء) المستضافين في تلك البرامج وبعضهم يفتي تقريبا في كل شيء، دون معرفة ولا معلومة عنده وفي زمن الإعصار الفكري ومدارس التشدد، الكلمات العامة والمبهمة وغير العقلانية من بعض (الخبراء)، تزيد من التشويش، أما عرض الأفكار المتشددة على أساس الحيادية الظاهرية فصفة يتعمق فيها القسم العربي، مما يقود إلى نشر أفكار قوى التشدد من جهة، وتسطيح المعلومة من جهة أخرى.


رابعا: بسبب فكرة، قد تكون ناجحة، في ثقافات أخرى، جلبت إلى الـ«بي بي سي» العربي من برامج أخرى، وهي استدعاء المستمعين للتعليق على بعض المواد الإخبارية الهامة، (شارك برأيك) يترك رقم تليفون يتصل به من يريد لإبداء وجهة نظره، وبالمتابعة الطويلة نسبيا، تبين أن هناك قائمة قصيرة جدا من المتصلين، يكررون أنفسهم ويعلقون على مواضيع لا يفقهونها، ويعطون أنفسهم مواصفات التفخيم التي قد تخدع المستمع المتعجل، دون تجديد في الأسماء من جهة، بل إن المحطة تسمح للبعض من المتصلين بإبداء آرائهم باستعمال أسماء مستعارة أو فقط بذكر الكنية، وكثير من أقوالهم فج وغير موضوعي، فلا معلومة تفيد، ولا قيمة فكرية تضاف، بل وبعضهم يستخدم كلمات غير لائقة، كقول أحدهم أخيرا العراق سوف يقسم إلى دويلات (حقيرة)! ويتم إذاعة كل هذا الغث من الآراء ومن نفس الأشخاص تقريبا على المستمع المسكين الذي يكون مضطرا للاستماع إلى أقوال مؤدلجة وبعضها سطحي. فوق ذلك فإن بعض المشاركين في البرامج الحوارية يسمح لهم باستخدام أسماء مختصرة مثل (أبو أحمد من الخرطوم أو أبو علي من القاهرة) فهل سمعنا في الإذاعة الرديفة (الإنجليزية) أبو توم وأم ميري مثلا؟!


في الآونة الأخيرة نشطت الدبلوماسية البريطانية لمحاولة التعرف على أسباب العنف والتشدد الذي يكاد يجتاح المنطقة كوباء، ولم تلتفت إلى مساهمة بعض مؤسساتها في هذا الأمر، مثل التعليم في مدن بريطانيا المكتظة بالمهاجرين الذين انحرفت بها بعض مؤسساتها عن جادة الصواب، وأيضا ما تقوم به مؤسساتها الإعلامية ومنها الـ«بي بي سي» (القسم العربي) على الأخص من إهمال في محتوى المادة المقدمة للجمهور العام، الذي أهمل الدفاع عن قيم التحضر والتسامح وترسيخ منهجية عقلية في التفكير!


بالطبع لا بد من الاستدراك أن التعميم فيه مخاطرة الخطأ وربما التجني، إلا أنني أتحدث هنا عن أكثرية في البرامج شكلا وموضوعا، بأنها تخرج عن جادة تقديم مادة إيجابية تفيد المستمع وتفيد التقدم الإنساني بشكل أوسع. طبعا عدا الأخطاء الفنية المكررة، كتقديم برنامج وبعد قليل الاعتذار عن الخطأ لأن المتكلم شخص آخر وهكذا.


المؤسف أن كل التقدم الإعلامي العربي الحاصل في السنوات الأخيرة، من حيث المحطات المتلفزة أو الإذاعية، لم يستطع تقديم بديل له قيمة مضافة عن الـ«بي بي سي»، وربما بسبب تاريخية هذه المؤسسة وطول خدمتها الإذاعية التي تركت تراثا من الثقة، جعلت من المتلقي العربي متعلقا بما تذيعه، عدا أن الأنظمة الحديثة في البث، كنظام الذبذبات القصيرة مكنت هذه المؤسسة من البث في معظم البلاد العربية بالوضوح السمعي التام وبالسهولة أيضا، بجانب استخدام وسائل الاتصال الحديثة للوصول إلى الجمهور، كل ذلك ليس متاحا إلى مؤسسات عربية بديلة.


تشكيل الرأي العام وتنويره في هذه المرحلة المهمة من تاريخنا المعاصر، لهما أهمية أدوات الحرب، ولا يعني قصور الـ«بي بي سي» العربي الذي ذكرنا بعضه، أن هناك (كمالا) في المؤسسات العربية الأخرى، فهي أكثر ترديا وقصورا، إلا أن الفرق في أن الأولى خلفها مؤسسات ودولة من المفروض أنها تعرف أكثر، وتشيع فكرا أكثر وضوحا وتوازنا. أما القصور العربي الرسمي والخاص في هذا المضمار فإنه مشاهد، يزيد الجهلة جهلا ويصب الزيت على النار في الكثير من الجوانب، بل بعضه يتعارض مع السياسة المعلنة للدولة المعنية.
آخر الكلام:
بثت إذاعة الـ«بي بي سي» الأسبوع الماضي حديثا مطولا للسيد نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي مبررا قتل المدنيين في غزة، دون معادل له، في الزمن على الأقل، من الجانب الفلسطيني!