عرفان نظام الدين

لم تعد جنيف حكراً على الامم المتحدة بوصفها المقر الثاني الدائم لها ولعدة منظمات إنسانية دولية، كما انها لم تعد عاصمة للمؤتمرات والاجتماعات السرية والعلنية لحل المشكلات المستعصية من الحرب في سورية الى الملف النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية بل أصبحت تضم اليها قضايا مهمة أخرى. فقد شهدت هذه المدينة الساحرة الآمنة الساكنة قبل ايام قليلة سلسلة اجتماعات لبحث مصير الفيلة والنمور في إطار اللجنة الدائمة لاتفاق التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية النادرة المهددة بالانقراض والتي تضم ١٨٠ بلداً عضواً.

&

وأول ما تبادر الى ذهني وانا اقرأ هذا الخبر المدهش الأوضاع العربية المزرية والمخزية وخوفي من ان يأتي يوم نسمع فيه عن مؤتمر دولي لمناقشة مصير العرب المهددين بالانقراض. وتذكرت ايضا المقال الحزين للشاعر الرائع نزار قباني وعنوانه « متى يعلنون وفاة العرب» وما خلفه من ضجة وأصداء.

&

وعلى رغم انني كنت، ومازلت رغم الويلات، من دعاة التفاؤل والنظر الى النصف الملان من الكأس العربي المر معارضاً سؤال الراحل الغالي مهما كانت مبرراته، فقد أصبت في الصميم وتكسّرت نصال الألم والإحباط على قلبي وعقلي بسبب الأحداث الدامية المتلاحقة التي شهدتها ديار العرب وما حملته من حروب وصراعات وحالات تطرف وعنف وإرهاب وإشاعة اجواء الكراهية والحقد والفتن، وكأننا نقود أنفسنا الى الهاوية او ان بعض العرب والمسلمين قد قرروا ان يرتكبوا جريمة انتحار جماعي كأنهم شنّوا على أنفسهم حرباً ضروساً هدفها الإبادة الجماعية والدمار الشامل.

&

فشر البلية ما يضحك في تصرفات وممارسات وخطابات وأقوال أي طرف من أطراف النزاعات وافرقاء المنغمسين في هذه اللعبة القذرة، وكأن العقل قد جن جنونه أوان الحكمة قد صارت جزءاً من الماضي وان التعقل قد تحول الى تهور وعناد ومكابرة فيما يمضي اصحاب الحل والربط الذين أمسكوا بزمام الامور ورقاب الناس، وهم الأكثرية الصامتة او بالأصح المستسلمة، في غيهم وتعنتهم بعد ان دمروا كل الطرق المؤدية الى الحوار والحلول الوسط واوصلوا بلادهم الى طريق مسدود لا مجال فيه لعودة معلقين كل المصائب على شمّاعة الاستعمار وإسرائيل (مع الاعتراف بأنها أصل البلاء والعلل).

&

هذه هي الحال المؤسفة التي عبّر عنها أحد السياسيين المخضرمين خير تعبير عندما سألته عن رؤيته للأوضاع الراهنة ففاجأني بالقول: لم أعد أعرف ولا أفهم ولا أتابع الاخبار، فقد وصلنا الى حافة الهاوية والوضع الأسوأ في تاريخنا الحديث فماذا تريدني ان اسمع بعد ذلك او ان اتوقع معجزة ما تخرجنا من النفق المظلم. كما عبّر شاب يافع ببراءة عن الواقع الأليم عندما أحرجني بسؤال لم استطع ان ارد عليه أو ان اقدم تبريراً له وهو: لماذا لا نشهد مثل هذه الحروب والصراعات والوحشية الا في الدول العربية؟ ولماذا لا نسمع في أية بقعة من العالم مثل هذه المذابح وأعمال العنف والارهاب والأحقاد والتعصب وانتهاك حرمة المقدسات وكل ما يمت للتراث العربي والإسلامي ورموز الحضارات المتوالية التي جعلتها منارة للعلم والنهضة ومفخرة وموضع إعجاب البشر الى أية جهة انتموا؟

&

انه سؤال مؤلم، والرد عليه أشد إيلاماً ألأنه واقعي ولا تفسير له مع ان حضارتنا تميزت عبر العصور بإنسانيتها وان ديننا الحنيف هو دين المحبة والتسامح والسلام كما ان الأديان السماوية نشأت في هذه المنطقة وانتشرت وبقيت رمزاً للتعايش السلمي والتآخي والمحبة ونبذ العنف والتمييز والتفريق بين البشر.

&

وهذا السؤال يطرح بدوره سؤالاً أشد تعقيداً وهو: لماذا وصلنا الى ما وصلنا اليه، هل ان العلة هي في الأنظمة التي ننتقدها ونشهد ثورات وانقلابات عليها؟ ام انها تكمن في الشعوب التي سلمت رأسها للتخاذل والجبن واستسلمت لواقعها ورضيت ان تتحول الى أدوات يستخدمها اصحاب الغايات والمطامع والمصالح من الداخل والخارج لتحقيق مآربهم؟ او ان تقبل المشاركة في القتل والارهاب وتأجيج الفتن والتعصب ضد «الآخر» وهو الأخ والجار والمواطن والإنسان لا فارق بين امرأة ورجل، ولا طفل وشيخ.

&

ولا يختلف اثنان على ان اخطاء الأنظمة وخطاياها كثيرة ومتراكمة منذ سنوات، ما احدث شروخاً في الأوطان والمجتمعات وأوجد البيئة الحاضنة للنقمة وزرع بذور الفتن والتفرقة والطائفية والمذهبية التي نمت وتحولت الى تربة صالحة لانفجارات تدمر الحجر والبشر وتأكل الأخضر واليابس وتجرف في طريقها الصالح والطالح.

&

وهذا كله واضح ومعروف وكتب الكثير عنه وعن عدم إيجاد أعذار لتبرئة بعض الأنظمة الديكتاتورية وما نشرته من فساد وما قامت به من نهب وهدر للثروات الوطنية وما تسببت به من فقر وتخلف وافلاس وبطالة وأمية وهجرة وضرب كل الموازين في المجتمعات وتحطيم الطبقة الوسطى التي تشكل بيضة ميزان الامن والامان والاستقرار في اي وطن.

&

وعلى رغم هذا فإن من الإنصاف ان نحمل الشعوب ايضا المسؤولية عن كل ما جرى، لخنوعها اولا ثم لأنها رضيت بان تتحول الى شيطان اخرس يسكت عن الحق ويتغاضى عن ممارسات وتصرفات مكشوفة مع انتقال العدوى الى العامة ليسير البعض في دروب الضلال والتضليل، فيما البعض الآخر يمارس آفات النفاق والمديح والتصفيق والهتاف وعبادة الفرد وتمجيده مهما كان ظالماً او فاسداً، بل ان التمادي في هذه الممارسات دفعه الى المضي في غيه ومضاعفة إجرامه.

&

وحتى لا نعمم في لوم الشعوب ومضاعفة همومها وتحميلها ما لا طاقة لها عليه يمكن اختيار عينات من ممثليها، او من وجوهها البارزة في العمل العام مثل المثقفين والإعلاميين، فمنهم من يؤدي دوره بأمانة وشجاعة وصدق ويضحي في سبيل مبادئ يؤمن بها ويدفع ثمناً باهظاً لتمسكه بالقيم ودفاعه عن الوطن وحقوق المواطنين، ومنهم من ييبع نفسه ويلعب دور محامي الشيطان، أو «قباقيب السلطان» كما كان يحلو للصحافي الراحل الكبير مصطفى أمين ان يسمّيهم. ومن يتابع نشاطات هؤلاء ممن يسمّون أنفسهم بالمثقفين والإعلاميين والمحللين والخبراء الذين يحتلون شاشات الفضائيات وأعمدة الصحف يجد العجب العجاب من موبقات وشتائم وبذاءة وعنف يصل الى حد الضرب وتبادل اللكمات.

&

فإذا كانت هذه هي الواجهة او «وجه السحارة»، كما يقول المثل، فإن الباقي أعظم وأشد عفونة وفساداً بعد ان تصدر الساحة كل من هب ودب من دعاة الفتن وعتاة الردح والقدح والذم الى جانب ما يعرف بـ «وعاظ السلاطين» والمتملقين والوصوليين والانتهازيين من بعض الأدباء والفنانين ورجال الاعمال ووجوه المجتمع يضاف اليهم الممارسات المزعجة التي نشتكي منها كل يوم في الشوارع من رمي الأوساخ والشتائم ومخالفة القوانين وعلى راسها أنظمة السير وتزايد حالات العنف الأسري والتحرشات الجنسية والاغتصاب امام أعين المارة من دون ان تنتفض النخوة فيهم ليهبوا لإنقاذ الفتيات من اعتداء فاضح.

&

وحتى الاسرة أصابها التفكك والانحلال وفرقتها وسائل اللهو واللامبالاة وأجهزة التواصل الاجتماعي وانشغال أفرادها، بكبيرهم وصغيرهم باللعب بها، فعم اللعب وليس استخدامها الإيجابي والمفيد.

&

وأختم مع شأن اللامبالاة ، بالإشارة الى ان المواطن العادي لم يعد مهتماً بشؤون وطنه ولا بهموم مواطنيه بعدما ادمن الخوف والتقوقع والقرف فلم يعد يفكر الا بنفسه ويحلم بالهجرة او يلهث وراء لقمة عيش لأولاده. اما العربي فقد تعرض لسلسلة خيبات امل وهزائم قتلت فيه ضمير ذلك الانسان الشهم الذي ينتفض لنصرة شقيق يتعرض لأذى اوعدوان أو يهب لمساعدة محتاج كما تعودنا صغارا. وكم كان مخزياً ومؤلماً مشهد الأفراح والليالي الملاح في بعض الشوارع العربية خلال ألعاب «المونديال»، بطولة العالم لكرة القدم، عندما انقسمت الجماهير بين محتفل بانتصار منتخب دولة ومنتحب لخسارة منتخبه المفضل فعمت الاحتفالات عند البعض وأقيمت مجالس العزاء للخاسرين واشتدت حدة المشادات والعداوات، كأن الذي فينا لا يكفينا، في اللحظة ذاتها التي كان فيها العدو الاسرائيلي يرتكب عدوانه ضد أهلنا في غزة ويرتكب المجازر بحق الأطفال والنساء ويدمر البيوت فوق رؤوس أصحابها، من المدنيين العزل. نعم انه مشهد محزن ومؤلم نحيله مع غيره من المشاهد المؤسفة الى السؤال الأساس عن أصل العلة، فالحديث الشريف يقول: «كما تكونوا يولّى عليكم». كما يقول سبحانه وتعالى: «ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم». صدق الله العظيم.
&