عبدالله بشارة
&

من يصدق ما يدور حولنا من مستجدات في فنون الصياغات الدبلوماسية وفي فلسفات الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان والى حد ما ليبيا وواقع سورية الحالي، وما خلفته سورية من ارتباكات اقليمية ودولية.
وتتحمل واشنطن العبء الأكبر من المسؤولية في هذه المنظومة المرتبكة والتي أنتجت المفاهيم الجديدة التي بدأنا نكررها الآن.
تطغى علينا الآن شروحات عن معاني الحروب غير المكتملة، Unfinished wars، مثل أحوال العراق وأفغانستان وليبيا، كحصيلة لغزوات

قامت بها الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق ومساهمة مؤثرة في أحداث ليبيا، صنعت واقعا اقليميا مضطربا مشحونا بالطائفية العنيفة وطغيان القبيلة ومناوشات أبناء العمومة، وانهيار مؤسسات الدولة وثوابتها وترنحها نحو التفكك والانقسامات، وبروز جيوش من القطاع الخاص تديره أيديولوجيات تكفيرية وانتحارية تطورت في وسائل عنفها مكنتها من احتلال شمال العراق وبدعم مالي من منابع غامضة وبأسلحة تشترى من السوق السوداء أو تسرق من خزائن الدول.
ويعود السبب إلى أنها حروب لم تكتمل بالنصر المنتهي، وتوقفت في وقت، ما كان يجب ان تتوقف فيه، وانسحبت في زمن، ما كان يجب ان تنسحب فيه، وتعثرت عن فرض نظام متلائم مع طبيعة هذه البلدان، وتخبطت في ادارة بلدان تم احتلالها بدون تعاون مواطنيها أو وسط معارضة منهم، فتواصلت الاغتيالات وكثرت المفخخات وغابت عن الدولة كل مظاهر سلطتها المركزية.


وتضجر الشعب الأمريكي من هذا الأداء الركيك الأمر الذي أثر على دعم حكومته للمعارضة في سورية بعدما تعلمت القيادة الأمريكية دروسا من حالات العراق وأفغانستان.
ومع هذا التفسخ السياسي والضياع الفكري تلاشت قواعد الاستقرار في دول المنطقة بعد ان تهدمت الثوابت المحافظة على الاستمرار في المنطقة الممتدة من باكستان الى المغرب وجنوبا الى بطن أفريقيا.
واذا كانت واشنطن ابتلعت مصائب العراق وأفغانستان فان الدولة الايرانية بقيادتها الثورية تعرفت على الحالة النفسية في واشنطن التي لم تعد تطيق حروبا جديدة ولم يعد لها النفس في مواصلة الحروب وتكملتها حتى النهاية، فخرجت ايران بمواقف مستخلصة من متاعب واشنطن، ورسمت سياستها في المفاوضات وفي دبلوماسيتها الاقليمية والدولية على مبدأ تبادل المكافآت.
ايران تجلس بنفوذ في العراق ولبنان وسورية وحماس واليمن وسواحل الخليج، وتبتدع نظريات تخدم أهدافها، فاذا كان الأفق لا يوحي باحتمال التدخلات الأمريكية، وفوق ذلك يشير الى اتساع الاضطراب الاقليمي، فلا تتردد ايران في صياغة قاعدة تريدها وتصر عليها، وهي قاعدة الحق في الاستحواذ على ما يفيد مما يمكن استخراجه من الصدمات الاقليمية ومن الخصومات بين المتحاربين في المنطقة، ومن حالة الاعياء النفسي الذي تعاني منه الولايات المتحدة.
وتعمل على تطبيق هذه القاعدة أيضا على مفاوضاتها النووية مع مجموعة الخمس زائد واحد (واشنطن، موسكو، لندن، باريس، بكين وبرلين).
ويردد الرئيس الايراني روحاني بأن العالم يدخل زمنا لن يحصل فيه طرف واحد على المكاسب، فقد ولى ذلك العصر، والرئيس روحاني يريد في مفاوضاته مع المجموعة حول سلاحه النووي، حقه في الندية، فلن تذعن ايران لشروط بلا مردود وبدون مقابل.
ومن هنا جاءت الفلسفة المستجدة في طهران بأنه لا يوجد شيء اسمه الحروب الصفرية zero-sum game، التي يأخذ فيها طرف واحد كل شيء، ويخسر الطرف الثاني كل شيء، وانما لكل طرف حساب ومن يدخل الصراع عليه ان يدرك بأن له حقوقا وعليه واجبات، وأنه لن يأخذ كل شيء، لكنه لن يخسر كل شيء.
هذه دروس ايرانية تملأ آفاق الاقليم، ترددها ايران وتلقتها حماس في صدامها مع اسرائيل الذي تصورت بأنها تستطيع ان تدخل وتضرب وتفرض ثم تنسحب بهدوء كما كانت تفعل سابقا.
حماس تقول الآن انها تبحث عن الشروط المناسبة لها في وقف اطلاق النار وفق الحق الذي توفره لها قدرتها على الحاق الأذى، واذا كانت اسرائيل تريد أجواء الهدوء فليكن الهدوء المناسب للطرفين لا ان يأتي بحصيلة تريدها اسرائيل وتخرج منها حماس بلا رصيد، وتخضع هنا الى نظرية zero-sum game، التي يقول الرئيس الايراني روحاني بأن المجموعة الغربية تريد فرضها على ايران، حيث تذهب المكاسب لها وتتحمل ايران كل الخسائر.
ومع هذا الدفع الايراني الهادئ، تحركت كل من قطر وتركيا لتحقيق تبادلية المكاسب بين اسرائيل وحماس أو تبادلية الخسائر، واشتدت المساعي المكثفة لاضافات توضع على المبادرة المصرية التي لا تعطي الكثير الذي يرضي حماس سوى وقف القتال، بينما يريد الآخرون في مقترحات قطر وتركيا رفع الحصار والسماح بالصيد وفتح المعابر الى آخره..


ومهما كان الرأي في سياسة حماس ومواقفها المعارضة لمسيرة المفاوضات، ومهما كان تشددها الدبلوماسي والعقائدي، وعزلتها عن حقائق العالم، تبقى الحقائق التي تبرز صلابة المقاومة، وثقل التضحية، والشدة في عناد المواجهة والتصدي لغزوات العدو، ونستذكر تاريخ الشعب الفلسطيني في صبره وتقبله للمآسي، ومن الانصاف أن يخرج هذا الشعب المكافح بشيء من المكاسب والاجراءات التي تخفف من أبعاد الدمار والكوارث التي حلت به وبمدينة غزة.
ومهما كانت الصورة المعطلة التي ترتبط بجماعة حماس وتمسك هذه الجماعة بالسيطرة والتحكم بشؤون غزة وبتجاهل كامل لما يدور في هذا العالم، فلا يمكن لأحد ان ينكر أداء المقاتلين وشجاعتهم وتضحياتهم ودقة التنظيم داخل كوادر المقاومة.
وأعتقد ان العالم كله يتابع أحداث غزة، بعض منه يتابع باعجاب، والبعض الآخر بغضب وحقد، وآخرون يتعاطفون مع حق حماس في الحق في رفع الحصار وازالة آليات التضييق التي يرزح شعب غزة تحتها.
كنت أتابع احداث غزة وأتذكر واقعة تاريخية عززتها الوثائق عن الثورة العربية الكبرى، ودور الأمير فيصل بن الحسين قبل ان يكون ملكا، عندما فشل في اقناع السفاح جمال باشا الحاكم العثماني المستبد في أراضي الشام بوقف الاعدامات التي يريد تنفيذها في حق القياديين العرب الأعضاء في جمعيتي الفتاة والعهد، وترجاه الأمير بالتروي والتسامح، غير ان عناد السفاح وهمجية تفكيره لم تسعف الامير العطوف، فتم اعدام تلك المجموعة في يوم 6 مايو 1916، وكان الأمير فيصل بن الحسين آنذاك، في فيلا صديقه عميد أسرة البكري، عندما أخبره أحد أعوانه بالمذبحة التي ارتكبها السفاح، فخرج الأمير الرصين عن طوره، ورمى عقاله وكوفيته وداس عليهما صارخا بصوت عال ومرددا عدة مرات، مرحبا بالموت يا عرب.
كنت أتابع مذبحة غزة مستذكرا مشاعر الغضب التي أطلقها الأمير فيصل بعد ان تبين له عجزه عن وقف المذبحة، وخرج الأمير غاضبا وهاربا الى مكة ليتفق مع والده الشريف حسين بن علي يوم العاشر من يونيو 1916 ليكون الاعلان الرسمي للثورة العربية الكبرى..


وأستذكر الاضراب الفلسطيني العام بين 1939-1936 الذي أجبر الحكومة البريطانية على اصدار الورقة البيضاء عام 1939 التي ألغت وعد بلفور مع انشاء دولة فلسطينية عربية – يهودية، كانت فرصة عارضها اليهود وعقدها المفتي الحاج أمين الحسيني صاحب الذهنية الناشفة، وانفجرت الحرب العالمية الثانية، وضاعت الفرصة كما ضاعت عشرات الفرص..
هنا حماس تقول لا يمكن قبول الحلول الصفرية التي يقدمها الوسطاء، ولا يمكن ان تقبل بحصيلة zero-sum game، التي قبلتها سابقا دون مكاسب تخفف من ثقل المذبحة، وكلنا نقول بأنها على حق مثلما يردد الرئيس الروحاني بان زمن حكر المكاسب لطرف واحد لن يعود، واذا نجحت حماس في صلابتها وحققت بعض ما تريد، فستتغير حتما قواعد المفاوضات القادمة....
< سأكون خارج الكويت وسيغيب هذا العمود الفضفاض على ان يعود الى الحياة في الثامن من سبتمبر القادم وكل عام وأنتم بخير،،

&