السيد ولد أباه

صرف العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة الاهتمام بالفظائع التي تجري في «دولة الخلافة الداعشية» من تقتيل ورجم باسم الشريعة وتهجير قسري للمواطنين العراقيين المسيحيين، في حين تصاعدت وتيرة الأعمال الإرهابية في نهاية هذا الشهر المبارك في اليمن وليبيا وتونس. وإذا كانت العلاقة غير ظاهرة بين هذه الأحداث، فإنها في الواقع بديهية من حيث كونها مؤشرات على أنماط الحروب الجديدة التي تعرفها منطقتنا المنكوبة: حروب تُخاض باسم محاربة الإرهاب من لدن دولة محتلة، وحروب إرهابية تُخاض باسم الشرعية الدينية، تستهدف أساساً المسلمين من طوائف مخالفة وأنظمة حكم ومجتمعات.

المشكل المطروح هنا أن هذا النمط الجديد من الحروب لا يمكن أن ندرجه في أي واحد من المفهومين الرئيسيين للحرب: «الحرب العادلة» بالمفهوم الديني والفلسفي الوسيط، و«الحرب القانونية» بمفهوم الشرعية الحديث. المقاربة الأولى ارتبطت بالقديس توماس الأكويني، الذي حدد شرعية «الحرب العادلة» في مبادئ ثلاثة كبرى هي: اختصاص السلطة العمومية الشرعية (الدولة) بحق شن الحرب، وإلا كانت جريمة لا تختلف عن الجرائم التي تواجهها، العدالة الأخلاقية المحضة للحرب، وعدم وجود نوازع أو خلفيات مصلحية أو نفعية أخرى في الدوافع لشن الحرب. وغني عن البيان أن المازق الذي تعاني منه منظومة الحرب العادلة هو منظورها القيمي الأخلاقي الذي كان تاريخياً خلفية لتبريز أفظع الحروب التي شنت باسم نشر الدين وتمدين الشعوب وتخليصها من الظلم (مثل الحروب الصليبية والاستعمارية).

ولهذا السبب، برز منذ القرن الثامن عشر تيار فلسفي وقانوني يدعو للتخلي عن الشرعية الأخلاقية للحرب باسم نمط جديد من الشرعية هو المنظور القانوني الإجرائي، الذي أظهر نجاعته في تحقيق السلم الأهلي داخل المجتمعات. ولعل أبرز من صاغ فكرياً هذا التوجه هو الفيلسوف الألماني «كانط» في رسالته الشهيرة حول «السلم الأبدي» 1975 التي شكلت الوثيقة النظرية الأولى، التي استند إليها النظام الدولي في القرن العشرين في تكريس مبدأ التضامن العالمي القائم على وحدة القيم المدنية والقوانين الناظمة لعلاقات الدول السيادية.

ولقد أفضى هذا التحول تدريجياً إلى تحريم الحرب نفسها بحصرها في حروب التحرر الوطني والحروب الدفاعية التي هي في واقع الأمر ليست حروباً بالمعنى الأصلي للكلمة، الذي كان يلتبس بمنطق الفعل السياسي نفسه، وهو تحول مرتبط بالطابع التدميري الهائل للحروب الجديدة على الأفق الكانطي، (الحروب العالمية والأهلية وحروب الإبادة الجماعية). فإذا كان هم الحروب العادلة الوسيطة ليس تحريم الحرب نفسها وإنما وضع تشريعات أخلاقية لتنظيمها، فإن هدف التشريعات الدولية المعاصرة هو تجريم الحرب نفسها وبناء العلاقات الدولية على معيار السلم لا تنظيم الحرب.

ومن هنا لاحظ الفيلسوف القانوني الألماني «كارل شميت» أن المشكلة الكبرى التي تواجه الدول الديمقراطية الحديثة هي تحديد الحرب المشروعة، التي ليس لها أي إطار قانوني، ولذا عندما تخوض حروباً باسم القانون والشرعية لا تقيم شأناً للخصم الذي تواجهه، بل تحوله إلى مجرم فاقد للإنسانية على عكس المبادئ التي كانت تحكم أخلاقيات «الحروب العادلة».

هذا المأزق هو ما ظهر بقوة بعد نهاية الحرب الباردة التي واكبها توقف منظومة الردع والتوازن، التي كانت تحد من احتمالات الحرب، فظهر اتجاه قوي للعودة إلى منطق «الحروب العادلة» من منظور الشرعية الأخلاقية لرفع الظلم عن الشعوب المقهورة، أو إنقاذ الأقليات المهددة بالتطهير العرقي أو مواجهة الإرهاب، ومن أهم من أعاد صياغة هذه الأطروحة من منظور فلسفي جديد المفكر السياسي الأميركي مايكل وازلر.

المشكل دوماً في منطق الحرب العادلة، كما هو معروف هو التباس المنظور الأخلاقي، الذي يتعلق بالنوايا، بالاعتبارات المصلحية والنفعية على عكس المنظور القانوني، الذي يقوم على مواد ومعايير إجرائية توافقية، ولذا كانت نتائج «شرعيات التدخل الإنساني» متباينة: مفيدة ومقبولة في البوسنة وكوسوفو، عقيمة في العراق، في الوقت الذي لم تلب نداء الاستغاثة في مناطق أخرى مهددة بالإبادة وفظائع الاحتلال: رواندا والصومال وفلسطين.

الأدهى من هذا كله أن مفهوم «الحرب العادلة» تحول تدريجياً إلى محور المعادلة الاستراتيجية المتفجرة في منطقتنا، يستخدمه فاعلون متعددون: المجموعات الإرهابية والحركات الدينية المتشددة من منظور عقيدة الجهاد الإسلامية، مع أن جمهور الفقهاء في الإسلام يرفضون جهاد الدفع، ويحصرون مشروعية الحرب في الإمامة العامة التي تنعقد لها البيعة أي الدولة الشرعية، ودولة الاحتلال الصهيونية التي تمدد مفهوم حرب الإرهاب على المقاومة المشروعة، الذي هو حق مطلق بالمفهوم القانوني الحديث.

وحاصل الأمر، أن مواجهة الاستبداد السياسي، وقمع الحكم في الدول التي بدأت تتفكك وتنهار ( كما هو شأن العراق وسوريا) لن يكون فعالاً ومجدياً سياسياً إلا بمنطق العمل النضالي السلمي ، كما أن حروب المقاومة التحررية لن تستفيد شيئاً من قاموس الحرب الدينية، الذي يسطر بقوة على جانب واسع من الشارع الإسرائيلي بما فيه المجموعات الحاكمة، فلا يمكن أن تستميل الرأي العام العالمي، ونضمن حقوقنا الشرعية، إلا بلغة القانون والمرجعية التشريعية الكونية التي تكفل حق المقاومة المشروعة العادلة.

في كتابه «إدارة الخوف»، يذهب «بول فرليو» إلى أن العالم يشهد اليوم عودة قوية للقصص الخارقة التي قامت عليها الثقافات الدينية الوسيطة: سقوط أبراج نيويورك الذي يوازي سقوط برج بابل، وفيضانات البلدان الآسيوية (تسونامي) التي توازي طوفان نوح، وحركة مشردي الكوارث المناخية، التي توازي التيه الإسرائيلي بعد الخروج العبري من مصر. الخشية كلها أن تصاحب هذه التحولات العودة إلى نمط من الحروب الدينية والطائفية، التي تغطي على حقيقة الأوضاع السياسية الفعلية، التي هي احتلال استيطاني عنصري، وأنظمة قمع تستخدم الأدوات الطائفية ذريعة لإحكام قبضتها وتمزيق شعوبها وبلدانها.
&