‏ محمد السعيد إدريس

&من المستحيل الحديث عن تأسيس مشروع عصرى للديمقراطية فى مصر يتجاهل حقيقتين أساسيتين أولاهما الوعى الدقيق بخصوصيات الواقع الفكري-


الثقافى الراهن للديمقراطية لأننا لن نبنى مشروعنا الديمقراطى بمعزل عن التطورات العالمية التى لحقت بمفهوم الديمقراطية فى ظل عالم أضحى زمعولماً ومخترقاً بفضل ثورتى الاتصال والمعلوماتية. وثانيتهما الوعى بالتجربة النضالية التاريخية للشعب المصرى من أجل الديمقراطية.

&

فالعالم يعيش الآن عصر «مجتمع المعلومات العالمي» حيث تحول العالم إلى ما يشبه «القرية الكونية» وأضحى فى مقدور أى بلدة نائية فى أقصى جنوب العالم أو شرقه أو غربه أن تلم بأحداث وتطورات تحدث فى لحظتها فى أماكن تبعد آلاف الكيلومترات، ولذلك فإن التجربة الديمقراطية العصرية التى نأملها فى مصر لن تكون أبداً مقطوعة الصلة أو منعزلة عن كل ما يعيشه العالم ويموج به من أفكار ونظريات سياسية جديدة تتعلق بجوهر الفكر الديمقراطى وتحديث نظم الحكم. علينا أن نحكم صلتنا مع عالمنا وألا نفرض على أنفسنا سياج العزلة تحت حجة أو تحت وهم «الخصوصية الوطنية» لأن معظم نظم الحكم العربية ظلت، على مدى عقود طويلة مضت تنكر حق شعوبها فى الديمقراطية تحت حجة مزيفة هى أن خصوصية المجتمعات العربية تفرض الأخذ بقاعدة التدرج نحو الأخذ بالديمقراطية، لكن واقع الأمر أن نظم الحكم هذه كانت حريصة على احتكار السلطة لأبعد مدى لمصلحة شخص أو عائلة أو قبيلة أو حزب أو جماعة تملك القوة والبطش، بقدر حرصها على احتكار الثروة وعياً منها بأن احتكار السلطة هو باب الولوج نحو احتكار الثروة واحتكار المكانة.

&

&وإذا كانت ظاهرة سقوط النماذج الديمقراطية التقليدية هى أبرز ما يعيشه العالم الآن بعد السقوط المدوى للاتحاد السوفيتى والسقوط المكتوم للديمقراطية الأمريكية، وأن العالم يعيش الآن عصر المراجعات والتطوير فيجب أن نبدأ من هنا. أن نبدأ من إدراك أن التجربة السوفيتية للحكم سقطت لأسباب كثيرة منها، وربما من أبرزها، أنها لم تستطع أن تؤسس لنظام حكم ديمقراطى يعطى للحريات السياسية مكانتها المحورية ويؤمن التداول السلمى للسلطة فى حين أنها كانت قد فشلت أيضاً فى تحقيق المساواة بمفهومها العادل سواء بين المواطنين أو بين الجمهوريات السوفيتية. كما أن الديمقراطية الأمريكية واجهت مأزقها التاريخى عندما مكنت السوق بآلياتها العنيفة وغير الإنسانية من إحكام قبضتها على السياسة والحكم وفرّغت الديمقراطية من محتواها عندما جعلتها ديمقراطية من يملكون، أو بالتحديد زمن يملكون أكثرس وحولت ما يعرف بـ «الديمقراطية التمثيلية» إلى «تمثيلية هزلية» من خلال الإمعان فى تزوير إرادة الناخبين حيث ظل «المال السياسي» يلعب دوراً تخريبياً هائلاً لمصلحة فرض نواب بعينهم ترضى عنهم «المؤسسة الحاكمة» التى تضم كبار أباطرة المال والصناعة والاحتكارات الممتدة فى مناطق متفرقة من العالم.

&

نحن الآن فى عصر المراجعات الأيديولوجية وبالذات المراجعات الديمقراطية فالمجتمع الروسى يتوجه نحو الديمقراطية ليس بردائها الغربى ولكن ضمن منظومة أوسع من القيم السياسية ذات العلاقة المباشرة بظروف التحول الراهنة فى روسيا. كما أن المجتمع الأمريكى يمر هو الآخر بمرحلة تجديد وتحديث مدخلها الوعى بإخفاق نظام السوق الرأسمالية والحد من تغولها، وإعطاء ضوء أخضر «لدرجة ما» من تدخل الدولة ضمن حدود مازالت غير متفق عليها تأخذ فى اعتبارها أن العدالة الاجتماعية مكون أساسى للديمقراطية، وأن الرأسمالية الليبرالية التقليدية لم يعد بمقدورها وحدها أن تؤمِّن المزيد من النجاح والتقدم الاقتصادي.

&تحدث فى العالم الآن، وحتماً ستؤدى إلى ابتكار مفاهيم وآليات أكثر حداثة وأكثر فعالية من منظور تحقيق المحتوى الجوهرى للديمقراطية كنظم للحكم فإننا ونحن نخطط لبناء مشروع ديمقراطى عصرى فى مصر يجب أن نكون طرفاً مشاركاً فى هذه المراجعات وأن نمسك بقوة بالاستخلاصات المهمة الناتجة عن هذه المراجعة التى تزيد من قناعة روسيا بأنه من المستحيل بناء «مجتمع المساواة» الذى كان يمثل القيمة العليا فى «الفكر الاشتراكى الماركسي» فى غياب الحريات السياسية جنباً إلى جنب مع الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية لأن هذه المزاوجة بين أولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحتمية الأخذ بالحقوق السياسية والديمقراطية هى التى تضمن لروسيا تحقيق التقدم المنشود.

&

&

كما أن مراجعة إخفاقات النظام الرأسمالى الليبرالى فى الولايات المتحدة قد أكدت ضرورة الأخذ فى الاعتبار بالحريات الاقتصادية والاجتماعية جنباً إلى جنب مع التمسك بالحريات السياسية، كما أكدت أن هذه الحريات السياسية لن تؤمن على النحو المرغوب ولن تستطيع الولايات المتحدة المنافسة على الزعامة الاقتصادية العالمية إلا بتأمين الحريات الاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق يد الدولة كشريك فى العملية الإنتاجية والحد من سطوة يد السوق الاقتصادية على الحياة السياسية.

&

&

ولحسن الحظ فإن هاتين النتيجتين تتطابقان تماماً مع دروس التجربة النضالية للشعب المصرى من أجل الحرية والديمقراطية. فقد أكدت هذه التجربة أنه من المستحيل الفصل بين حرية الوطن وحرية المواطن. فقد ثارت مصر بقيادة الزعيم أحمد عرابى من أجل حرية الوطن واستقلاله فى مواجهة الغزو والاحتلال البريطانى عام 1882، لكنها لم تستطع تحقيق هدفها لأن المصريين لم يكونوا أحراراً. كانوا عبيداً فى وطنهم تحت هيمنة طبقة حاكمة موالية للخديو أو للملك، وتكرر الأمر للمرة الثانية ولكن فى الاتجاه العكسى فعندما استطاع الشعب أن يثور عام 1919 من أجل الحرية والاستقلال لمصر وحصل بدلاً منهما على حكم ديمقراطى مشوه تسيطر عليه الطبقة ذاتها لم تستطع هذه الطبقة أن تحقق بنضالها الديمقراطى حرية الوطن واستقلاله لأنها احتكرت الحكم لنفسها باعتبارها الطبقة المتفردة بامتلاك الحكم لأنها الطبقة المتفردة بامتلاك الثروة فى مجتمع كان يحتكر معظم الثروة فيه أقل من نصف فى المائة من سكانه.

&

&

كما أكدت هذه التجربة أنه من المستحيل الفصل بين الحريات الديمقراطية والعدالة والحقوق الاجتماعية. تجربة نصف قرن تقريبا من الحكم اللبيرالى فى مصر أكدت ذلك حيث شوهت التجربة الديمقراطية لغياب العدالة والحقوق الاجتماعية، وعندما جاءت ثورة 23 يوليو 1952 لتصحح هذا الخطأ ولتعطى الأولوية لتحقيق العدالة الاجتماعية إيماناً منها بأن تحرير تذكرة الانتخابات يبدأ بتحرير رغيف الخبز أدى عدم التوازن بين الحريات السياسية والعدالة إلى أخطاء وتجاوزات شوهت التجربة.

&

&

والآن ونحن نؤسس لمشروعنا الديمقراطى العصرى علينا أن نبدع فى تأسيس ديمقراطية غير مزيفة بعيدة عن الأدوار التخريبية التى يلعبها «المال السياسي» والأجهزة الأمنية، وعلينا أيضاً أن نحرص على المزج بين الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية بحيث تكون العدالة الاجتماعية قريناً للحريات السياسية، ولكن دون تجاهل لأهمية الحفاظ على الاستقلال الوطنى وبناء المجتمع الآمن والمستقل وغير التابع من خلال مشروع وطنى للتقدم والتنمية غير خاضع لهيمنة أو سيطرة أجنبية لأنه دون بناء الدولة الوطنية القوية المستقلة مستحيل أن نتحدث عن ديمقراطية أو عن عدالة اجتماعية.

&