محمد كريشان

كان يمكن لمأساة غزة أن تكون مدمرة فعلا لو اختلف بشأنها الفلسطينيون.


الحمد لله أن ذلك لم يحدث مع أنه كان يمكن بكل سهولة أن تدخل الأطراف الفلسطينية لا سيما «فتح» و «حماس» في دوامة جديدة من المماحكات عمن يتحمل مسؤولية ما جرى لكن وحشية إسرائيل و دماء أطفال غزة و صبر أهلها لم تترك مجالا لاحتمال بائس كهذا. هنا لا بد من تحية قيادة الفصيلين على ضبط أعصابهما وعدم الانجرار وراء ذلك رغم وجود بعض الأصوات من كلا الجانبين سعت إلى الدفع نحوه لكنها سرعان ما تراجعت وخبت لحسن الحظ.
لا مفر من الإقرار بأن أداء قيادة «فتح» و السلطة الوطنية اتسم في بدايته ببعض الشلل أو الارتباك في التعامل مع الهجوم على غزة رغم التنديد به. لكأن الجماعة بوغتت بهذا الهجوم مع أنها الأكثر معرفة بنتنياهو وبحثه الدائم عن أي ذريعة لضرب المصالحة الفلسطينية و حكومة التوافق التي أفرزتها. كان واضحا أن الرئيس محمود عباس لم يكن يهمه بالدرجة الأولى سوى وقف العدوان الإسرائيلي وتجنيب الفلسطينيين أية معاناة جديدة، لكن هذا لم يكن في وارد حسابات نتياهو منذ البداية.


لم يكن أبو مازن سعيدا بما جري و قد يكون في جلساته العديدة وسفراته المختلفة أعرب عن عتاب ما لــ «حماس» و لكن يحسب له أنه لم يخرج شيئا من هذا إلى العلن. صحيح أنه كان يدفع في اتجاه إعطاء الأولوية لوقف إطلاق النار وتبني المبادرة المصرية والدفع باتجاه قبول «حماس» لها حتى من باب إحراج الإسرائيليين كما قال في أنقرة، لكنه لم ير من المناسب لوم حماس باعتبارها هي من جر الويلات على القطاع. للأسف، خرجت بعض الأصوات الفتحاوية، الحالية أو القديمة المقيمة في الخارج، التي فعلت ذلك وبأسلوب فج لكنها لم تكن مؤثرة في النهاية ولا أحد التفت إليها. أبو مازن البراغماتي حتى النخاع، الذي لا يؤمن بغير أسلوب الاتصالات الدولية والمساعي الدبلوماسية لمعالجة أي إشكال مهما بدا مستعصيا، لم يجد في النهاية من مفر لرفع سقف خطابه بعد ما رآه من جرائم إسرائيل وصمود أهالي غزة وتصميمهم على أن لا حياة بلا كرامة.


أما «حماس» فلا يبدو أنها كانت تريد لهذا العدوان أن يتم ولا هي حاولت استدراجه. صحيح أن ما جرى أعاد الحركة لصدارة الأحداث بعد فترة غياب إجبارية وأعاد لشعاراتها في المقاومة الإعتبار لكن ذلك ما كان يمكن أن يكون محسوبا أو مخططا له بانتهازية مجرمة يدفع الناس ثمنها. وحتى ما كان يحسب عليها خطأ بقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل اتضح الآن أنه محض إفتراء خاصة أن الحركة نفت دائما مسؤوليتها عنه. كانت الحركة تؤكد منذ بداية العدوان أنها ليست هي من جر إليه لكنها مستعدة للتصدي له طالما أنه فرض عليها. هنا أبلى مقاتلوها وبقية مقاتلي المقاومة بسالة مثيرة للإعجاب وألحقوا بإسرائيل خسائر مؤلمة لم تعرفها من قبل ولا حتى في عز استبسال مقاتلي «حزب الله» في حرب 2006.


كان للحركة بعض العتاب على القيادة الفلسطينية لكنها لم تخرجه هي الأخرى إلى العلن ولا جعلته نقطة رئيسية في خطاب قيادييها رغم أن بعض المتحدثين باسمها في غزة كادوا ينجرون في تصريحاتهم إلى أيام الانقسام في بعض الغمز واللمز الذي من الجيد أنه لم يستمر طويلا . ظل خطاب الحركة مركزا على وحشية العدوان وضرورة التصدي له ورفض أية مبادرات مهينة مهما كلف ذلك من تضحيات بدا أهالي غزة، و ليس غيرهم، مصرين عليها بعد أن ضاقوا ذرعا بواقعهم الظالم طوال هذه السنوات.


للرئيس محمود عباس ومن حوله و لخالد مشعل و من حوله يعود الفضل في عدم الانجرار إلى ما انجر إليه اللبنانيون في حرب 2006. وقبل هؤلاء وأولئك يعود لأهالي غزة كل الفضل في جعل الجميع مقدرا للمزاج العام للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع الذي لم يكن يوما موحدا كما هو اليوم. الكل بات على قناعة بأن إسرائيل ليست في وارد التنازل عن شيء بالتي هي أحسن، و أن الفلسطينيين إن لم يصبحوا موحدين و شرسين في الدفاع عن حقوقهم فلن يمنحها لهم أحد. يجب أن تشعر إسرائيل بأن لاحتلالها كلفة ستتصاعد إلى أن تصبح لا تطاق، سياسيا وأمنيا وعسكريا ومن سمعتها الدولية حيث عرف العالم كله الآن من هي حقا هذه القوة الغاشمة الذي آن أوان وقفها عند حدها.