رستم محمود

حينما طالب وزير الخارجية الأميركي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بأن يمنح غيره من العراقيين فرصة لقيادة البلاد، رد الأخير متمسكاً بنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وأغلب الظن أن كيري صمت بعد ذلك الرد، ولم يلق لديه أي جواب منطقي يرد به على المالكي!

والمؤكد أن كيري في خبيئة نفسه احتار بما يمكن أن يصف به العراقيين الذين انتخبوا قائمة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي «دولة القانون» للمرة الثالثة على التوالي! فملايين المواطنين العراقيين (قرابة ثُلث مجموع الكتلة الناخبة) انتخبوا بكامل إرادتهم وحريتهم التيار السياسي الذي يقود البلاد منذ قرابة العقد من تاريخ العراق الحديث، على رغم أن هذا التيار وزعماءه اغرقوا البلد في شبكة معقدة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهذا التيار استنزف موارد البلاد الهائلة، البشرية والمالية والجيوسياسية، وأعاد تركيبها كلها في شكل قريب جداً مما كانت عليه في حقبة الاستبداد الصدامي، حيث الحُكم الشخصي الشمولي والانقسام المجتمعي الحاد والفساد المتعدد الاتجاهات، وهي حقبة دفع العراقيون ملايين الضحايا للتخلص منها.

ما الذي يغري ملايين العراقيين هؤلاء بأن يعيدوا انتخاب المالكي وتياره السياسي، على رغم «عذاباتهم» مع نتائج سياساته وأفعاله؟ ما هي الديناميات الاقتصادية والتنظيمية التي تُستخدم لتحشيدهم، وأي خطاب سياسي-اجتماعي تصدره المؤسسات التعبوية الرديفة لها كي تعبّئ هذا الكم من «الموالين»، وتشغلهم عن «مآسي» استمرار حُكم هذا الطرف السياسي؟

طوال عقد كامل من عمر العراق الحديث، استخدم تيار المالكي ثلاث ديناميات سياسية اجتماعية اقتصادية، مركّبة ومتكاملة، لضبط أو ضمان هذه الكتلة الضخمة من الموالين في «اللعبة الديموقراطية» المعمول بها.

فمن طرف، رُتب نظام إدارة عامة تقليدي على قاعدة «الاقتصاد الريعي»، بما ينتج كتلة مجتمعية موالية بالضرورة. هكذا نُظمت أعداد ضخمة من شبه العاطلين في مؤسسات لا طائل منها ولا ضرورة لها، ومن ثم ربطت وضبطت حركتهم الوظيفية هذه بمدى ولائهم لتيار حزب الدعوة. وساعدت العائدات المالية النفطية الضخمة، وخلو العراق من المؤسسات البيروقراطية التقليدية، حزبَ الدعوة على تشكيل شبكة مؤسسات الإدارة الأمنية والعسكرية والبلدية والتعليمية، المملوءة بملايين الموالين ممن يخشون أية إزاحة للدعوة ورئيسه المالكي عن سدة الحُكم، ما قد يؤدي إلى فقدانهم مكاسبهم «الوظيفية» المتواضعة هذه. ولم يمتن تيار المالكي ذلك الرابط الاقتصادي-الاجتماعي إلا بشحذ العصبية الطائفية الجهوية، فبقي محافظاً على تقديم شخصيته السياسية بوصفه الممثل لشيعة جنوب العراق، ساعياً الى تحويل تلك الهوية الطائفية/المناطقية إلى هوية وطنية عمومية، مع ضمان منع كل عودة أو سيطرة سياسية «سُنّية»، أو تعاظم أي نفوذ كردي حقيقي ضاغط .

فقد عمل تيار المالكي على «شيطنة» الحضور السياسي الكردي والسُنّي في البلاد، وكثّف تصويرهما كخطرين داهمين على مستقبل «الشيعة» العراقيين، وخُلقت «أنا جميعة» مصابة بالرهاب، لا تجد في غير تيار المالكي ما يدرأ الخطرين الكردي والسُنّي المتوهمين.

وأكمل تيار المالكي آلية الربط العضوي للناخبين به، عبر ربط نفسه بالآلية نفسها بقوة إقليمية مركزية هي إيران. ذاك أنه الأكثر إدراكا أن الجموع الغفيرة لن تلبّد خياراتها السياسية–الانتخابية بالبرامج الحزبية والمفاضلة الإنجازية بينها، بل هي أميل إلى الانحيازات الإقليمية حيث تفضيل الكتلة الضخمة من الشيعة العراقيين لإيران ونفوذها على أية قوة إقليمية أخرى. وتيار المالكي، في آخر المطاف، هو «الوكيل» السياسي في العراق لإيران.

إنها إذاً دولة ذات مؤسسات تفيض بملايين العاطلين من العمل، المصابين برهاب جمعي من ملايين المواطنين الآخرين من أبناء بلدهم. وفوق هذا هناك شكل مشوّه من الوطنية التي تفضل «نفوذ ومصالح» إيران على أية مصلحة وطنية. أما العملية الانتخابية فلا تعدو كونها، مع ذلك كله، طقساً فولكلورياً لإبراز فائض العائدات.
&