&جاسم بودي

تتعافى أرض الكنانة رويداً رويداً. تتجه بسرعة إلى الأولوية التي وضعتها، أي الى الاستقرار بعد مرحلة من المراوحة السياسية والشعبية والأمنية.

تتعافى أرض الكنانة وسط رعاية عربية قل نظيرها، ووسط صلابة امام ما كان مرسوماً لها اميركياً... قل نظيرها أيضا. انما ليس بالرعاية وحدها تبنى الأوطان ولا بالصلابة تستقر ولا بالشعبية تتقدم.

تحتاج مصر اليوم إلى الاستقرار الاقتصادي بالدرجة الاولى. جميل أن ترى الناس تؤيد وتشارك وتصفق، لكن للعاطفة أوقات وللبناء اوقات اخرى، وحتى تتناسب إمكانات مصر الاقتصادية مع دورها السياسي وموقعها الاستراتيجي لا بد من تغيير جذري في العقلية الادارية التي حكمت طيلة العقود السابقة، ولا بد من اجراءات صارمة حتى ولو كانت انعكاساتها قاسية على المدى القصير.

أي مسؤول مصري تلتقيه، أي رجل أعمال، أي مواطن، يمكنه ان يلخص لك المشكلة بعفوية مطلقة. الخزينة منهكة بسبب دعم المواد الاساسية. الدين يرتفع بسبب غياب المداخيل والموارد. المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية خاضعة لتدخل الدولة سواء في اتجاه الحماية منعا لحصول أزمة. القطاع العام متخم بالتوظيف والقطاع الخاص يتقدم خطوة ويتراجع خطوات في ظل الوضع العام من جهة والقوانين المكبلة من جهة ثانية والتجارب غير المشجعة من جهة ثالثة. ودائما دائما كنت وغيري نتساءل عن الحجم الكبير من الأزمات التي يتعرض لها رجال الاعمال المصريون اذ لا يكاد يمضي شهر في السابق الا وتسمع عن قضية ضد هذا وذاك الى درجة صارت كلمة «بيزنس مان» غير مستحبة او ستلحقها قضية.

لا يمكن لمصر ان ترفع الدعم عن السلع الاساسية اليوم لكنها لا يمكن ان تستمر في الدعم بكل جوانبه على الاقل. طبعا لا بد من مراعاة الجوانب الاجتماعية حيث يعاني جزء كبير من أهلنا في مصر من مصاعب الحياة، انما لهذا الأمر حلول أخرى. كما لا يمكن لمصر ان تركن الى المساعدات المالية من دول الخليج وغيرها (وهي بالمناسبة واجب واستثمار مستقبلي) لان مشاكل مصر لا يحلها التدفق المرحلي للسيولة.

بادئ ذي بدء، يتطلع المصريون الى تغيير العقلية البيروقراطية التي حكمت القطاع العام المهيمن على مفاصل الدولة منذ عقود. هذه العقلية لم تعد تمت الى اقتصاديات العصر الراهن بصلة. لا بد من تشريعات مرنة حديثة تحفظ حقوق المصريين من جهة وتسمح باستقطاب آلاف المشاريع الصناعية والزراعية والمالية والتجارية من جهة أخرى.

اما أموال الدعم التي ستحصل عليها مصر من الأشقاء والاصدقاء فالأفضل ان تكون موجهة إلى مشاريع ضخمة معدة سابقاً وواضحة المعالم، بدل ان تكون كميات نقدية محفوظة كوديعة دعم هنا أو للاستفادة من فوائدها هناك او لصرف العاجل من المستحقات. ان المشاريع المشتركة بين مصر ودول الخليج على سبيل المثال اذا أديرت بأسلوب القطاع الخاص فانها تسمح بتنمية قطاعات كثيرة وتؤمن فرص عمل للمصريين برواتب جيدة وتبقي الكتلة النقدية في الدورة الاقتصادية الداخلية. وهنا لا بد من تأسيس مجلس اعمار أو هيئة أو مؤسسة مهمتها فقط ادارة القادم من مشاريع بذهنية حديثة علمية ربحية متخصصة من دون اي اعاقات بيروقراطية او تشريعية.

السياسة انعكاس للاقتصاد وليس العكس، واذا امتلأت مصر بالمشاريع المشتركة وفق السياق الذي ذكرناه فالاستقرار سيكون سيد الموقف في العلاقات الخارجية، والمصالح المشتركة ستكون عنوان التقارب والدعم والمؤازرة بين الأطراف.

في موازاة ذلك، لا بد من تعميم ثقافة الانتاج لمحاربة ثقافة الاستهلاك، ولا بد من طبقة جديدة يعمل العهد الجديد على تكوينها تكون رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تعمّم تجربتها تدريجيا الى مختلف المناطق. ومع تقدم التجربة ونجاحها وتحديث الإدارة وتحول مصر كلها إلى ورشة تنموية وتقدم الشباب المصري المتألق في ميادين العلم والتكنولوجيا صفوف ثقافة الإنتاج... لن تعود أعباء الخزينة كما هي عليه اليوم ولن يعود القطاع العام الى ما هو عليه اليوم ولن يستقيل القطاع الخاص من مهمته كما هو الحال اليوم.

بعيدا عن الصناعة والزراعة ومداخيل قناة السويس وبعض الثروات الطبيعية وغيرها، فان قطاع السياحة في مصر كفيل لوحده بتنمية الخزينة ان احسنت ادارته. يزور هولندا عشرات ملايين السياح لرؤية حدائق الورد. يتكبد الناس عناء السفر لأيام طوال الى المكسيك لرؤية اهرامات الازتك الصغيرة مقارنة بعجائب العالم السبع عندنا. يتجمعون حول قصر باكنغهام في لندن لرؤية الحرس يتبدل. مصر فيها اكثر من ثلثي آثار العالم. مصر في قلب العالم جغرافيا. مصر فيها الشواطئ. مصر فيها التاريخ والحضارة ولا تخلو اكثر الكتب مبيعا في العالم من الحديث عن مصر وسرها وسحرها... فلماذا لا تكون السياحة ثروة مصر ولماذا لا يدار قطاع السياحة بأرقى العقليات؟

بصراحة ما تريده مصر ليس نهجاً سياسياً جديداً فحسب بل ثورة حقيقية في العقلية الادارية البيروقراطية وهي قادرة على ذلك. وما نريده لمصر حقيقة ان تتغير نحو الأفضل اقتصادياً واجتماعياً كي تبقى الريادة في المكان الذي تستحقه. حمى الله مصر ورسخ سلامها كي تبقى آمنة وندخلها آمنين.

&
&