عبدالرحمن الوابلي

مشروع المقاومة العسكرية ضد إسرائيل يجب أن يكون هو وسيلة وأداة الدول العربية لإجبار إسرائيل على قبول خطة السلام. سنة التاريخ تؤكد لنا أن المقاومة هي حقيقة تاريخية لا تقاوم، أي أن المقاومة قائمة قائمة، سواء وجدت دعماً رسمياً أم لم تجده، فحاضنتها الشعبية تخلق شرعيتها

&


أي أمة أو شعب، أو حتى جماعة بشرية؛ يقع عليها تسلط واضطهاد وظلم خارجي، وبالأخص غريب عنها؛ ينخلق داخلها أوتوماتيكياً جيب أو عدة جيوب للمقاومة. هذا الجيب أو تلك الجيوب، تتحول أوتوماتيكياً كذلك، إلى مشروع مقاومة وطني أو قومي. قد لا تحقق المقاومة في البداية أو في الوقت المنظور، نتائجها التحررية؛ ولكن في النهاية لا بد للمقاومة من أن تنتصر، خاصة إذا أصبحت تتحرك ضمن مشروع نضالي استراتيجي وطني أو قومي. مثال على ذلك الثورة الجزائرية العظيمة، التي بدأت من عام 1832؛ سنة الغزو الفرنسي لها، ولم تحقق نتائجها المرجوة منها؛ إلا في عام 1962، سنة انسحاب القوات الفرنسية صاغرة منها، أي تحققت نتائج الثورة بعد أكثر من قرن وربع القرن. وهنالك العشرات إن لم نقل المئات من المقاومات التي حققت أهدافها في تاريخنا الحديث.


لكل قوة روح تحركها، فالجيوش النظامية تحركها المادة، أي تقاس بعدد ما تمتلك من جنود وسلاح وذخيرة وتمويل وتدريب. أما المقاومات فمن الصعب قياس قوتها مادياً؛ حيث هي نتاج إرادة أو إرادات شعوب. في النتيجة، تستطيع تدمير ما يمكن أن تعده أو تحسبه مادياً، مثل الدبابات والطائرات وغيرها من آليات وأدوات حرب الجيوش الأساسية، وتعلم ما دمر وما بقي لم يدمر منها؛ وتتنبأ بنتيجة الحرب. أما المقاومات، فلا تستطيع تدمير محركها الأساسي وهي الإرادة؛ وعليه يصعب التنبؤ بنتائج حروبها. إلا أن التاريخ أخبرنا بما لا يدع مجال للشك، بأن المقاومات المبنية على قضايا شرعية ومحقة هي من ينتصر آخراً.


إرادة المقاومة تزداد يوماً بعد يوم، وتكتسب تجارب ودروساً يوماً بعد يوم، وتزداد شرعيتها، بقدر ازدياد تضحياتها؛ ولذلك يصعب التنبؤ بنهايتها إن لم نقل يستحيل. إذاً فالجيوش تخسر أمام المقاومات الشعبية ذات القضايا الشرعية والمحقة، التي تتمتع بحاضنة شعبية عريضة ومبنية على مشروع نضالي مقاوم؛ لكون الجيوش يمكن عد وإحصاء خسائرها، أما المقاومات فيستحيل عد أو إحصاء خسائرها؛ كون الإرادات لا تحصى ولا تعد؛ وترتفع وتزداد بقدر ما زادت وطالت تضحياتها.


ضعف المقاومات المادي هو جزء أساسي من قوتها؛ حيث تعوض عنها بتكتيكات وطرق حرب جديدة وغير تقليدية أو مكلفة، غالباً ما تكون خاصة بها، ومبنية على مقاس قوة وضعف عدوها، من حيث إحباط قوته وتفريغ نقاط تفوقه، والتركيز على نقاط ضعفه، والمراهنة على إضعاف معنويات مقاتليه، ورفع معنويات حاضنتها (المقاومات)، الشعبية وبالتالي تدعيم وتقوية ودفع ورفع إرادة المقاومة لديها، بشكل عام، حيث كما أسلفت؛ الإرادة هي أساس قوة المقاومة ومحركها الأساس.


لكل شيء في الحياة معادلة، وعليه فللحرب معادلتها الخاصة بها. معادلة الحرب تتمحور حول أن الحرب تقوم بين طرفين، لكل طرف نقاط قوته ونقاط ضعفه. الطرف الذي يحايد نقاط قوة عدوه، ويحرمه استخدامها، وكذلك يستغل نقاط ضعف عدوه ويركز عليها. وبنفس الوقت، يستخدم هو نقاط قوته لأقصى مداها، ويغطي نقاط ضعفه، حتى لا يستغلها عدوة، يكسب في النهاية الحرب، طالت أم قصرت. الحروب الحاسمة هي التي وقعت بين الشرق والغرب، منذ حروب الفرس مع اليونانيين والروم، ثم حروب العرب مع الروم، ثم حروب الشرق ضد المستعمر الغربي.


منذ بداية تاريخ الحروب العسكرية بين الشرق والغرب، اتضحت معالم تفوق كل جيش على الآخر. الجيوش الشرقية تعتمد بدرجة كبيرة في خوض حروبها على شحن وشحذ همم جنودها بالمعنويات العالية، التي تدفعهم للتضحية والقتال حتى آخر رمق. الجيوش الغربية منذ التاريخ القديم لم تستطع أن تجاري الجيوش الشرقية بالمعنويات، ولذلك ركزت اهتمامها على تنظيم وحدات الجيوش المقاتلة والتدريب العالي والمستمر على القتال، وكذلك على التسليح بالدروع السميكة التي يرتديها مقاتلوها، والتي تكاد تغطي معظم أجسادهم. وكذلك اعتمد مقاتلوها على الرماح الطويلة، والعدد الهائل من رماة السهام والنبال.


أما الجيوش الشرقية، فتعتمد كثيراً على معنويات مقاتليها، ولذلك فالمقاتل الشرقي يرتدي درعاً واحداً وخفيفاً يغطي صدره وخوذة صغيرة يضعها على رأسه. ورمحه أقل طولاً من رمح المقاتل الغربي، حيث يستعيض عنه بمهارته في استخدام السيف وسرعته في الحركة ودقة التصويب عن بعد. الجيوش الغربية تعتمد على رص الصفوف والحركة المتناغمة، ضمن تنسيق تراتبي منظم، تركز اهتمامها على عدم حدوث أي خلل أو ثغرة بين وحداتها المقاتلة. أما الجيوش الشرقية فتعتمد أكثر على المناورات والإحاطات حول أجناب العدو، ومحاولة تطويقه من الخلف إن أمكن. إذاً فالمعنويات العالية هي جزء مهم في إرث المقاتل الشرقي، بشكل عام، والعربي بشكل خاص، وتكون حاسمة إن تم استغلالها بالطريقة المناسبة والفعالة.


منذ ضعف وتفكك الدولة العباسية ثم سقوطها، وظهور عصر الدويلات، ثم سيطرة السلاجقة ثم المماليك ومن بعدهم الأتراك على العالم العربي، تم عزل العرب عن قيادة الحروب المصيرية التي تخصهم، ناهيك عن التخطيط لها وتنظيم الجيوش لخوضها، حتى انهيار الدولة العثمانية في العقد الثاني من القرن العشرين. أي بأن العربي عزل عن قيادة الحرب التقليدية (الجيوش)، مما خلق لديه فجوة في خبرة إدارة الحرب تقدر بأكثر من عشرة قرون. وعندما ظهرت الدول العربية الحديثة، وتم تأسيس جيوشها، تم تأسيسها على تسليح وتنظيم النمط الغربي للجيوش. أي واجه العرب أزمتين في إدارة الحرب: أزمة عدم وجود إرث وتراكم تاريخي في إدارة الحرب يستندون عليه، وأزمة تسليح وتنظيم، لا تناسب طبيعتهم البشرية والجغرافية، وعليه لم يكسب أي جيش عربي حرباً ضد الجيوش الغربية، التي من ضمنها الجيش الإسرائيلي.


ولكن منذ تم تهميش العرب، اضطر العرب لخوض نمط عسكري مناسب لإمكانياتهم، وهي الانتفاضات وحركات المقاومة العسكرية، وحققوا استقلالهم وإثبات ذاتهم من خلالها. الجيوش العربية فشلت في التصدي للعدوان والصلف والجبروت الإسرائيلي، ولكن المقاومات العربية هي أول من حطم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. إسرائيل لم تستجب لأي من مشاريع السلام العربية، بل زادها ذلك تجبراً وتعنتاً وقسوة واستهتاراً بالعرب.
وكحقيقة تاريخية، فإنك لا تستطيع أن تفرض أو حتى تقنع عدوك بخطة سلام عادلة، إن لم يكن لديك البديل، إن لم يقبلها، وهي الحرب. توجد خطة سلام عربية، ولكنها بلا معنى، حيث ليس هنالك جيش أو جيوش عربية تهدد بمعاقبة الكيان الصهيوني عسكرياً، إن لم يرتدع عن غيه، ويقبل خطة السلام العربية. المقاومة هي لعبة العرب وأداتهم الوحيدة الآن لإرغام إسرائيل على قبول خطة السلام العربية.
ولذلك فمشروع المقاومة العسكرية ضد إسرائيل يجب أن يكون هو وسيلة وأداة الدول العربية لإجبار إسرائيل على قبول خطة السلام. سنة التاريخ تؤكد لنا أن المقاومة هي حقيقة تاريخية لا تقاوم، أي أن المقاومة قائمة قائمة، سواء وجدت دعماً رسمياً أم لم تجده، فحاضنتها الشعبية تخلق شرعيتها، حيث الشعوب هي من تخلق مقاومتها للظلم والبطش والجبروت.
&