عمار علي حسن

&في عام 2004 صدر لي كتاب عن «مركز الخليج للأبحاث» بعنوان «العلاقات المصرية الخليجية.. جذور الماضي ومعطيات الحاضر وآفاق المستقبل» انطوى فصله الأخير على نبوءة بتعرض الدولة الوطنية لخطر التفكك، والاستمرار في تآكل العالم العربي من أطرافه، ومن ثم مطالبة بضرورة بناء «الكتلة العربية الحية»، التي تشكل نواتها الصلبة مصر مع دول الخليج، لاسيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت، ثم يمتد الأمر إلى دول المغرب العربي، ودارت الأيام وها نحن نجد أنفسنا في حاجة ماسة إلى هذه الخطوة التي بوسعها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه.

فقبل انطلاق الانتفاضات والاحتجاجات والثورات العربية، كانت دراسات وأبحاث الخبراء وكتابات وتصورات المثقفين وتصريحات وتعهدات المسؤولين تصب جميعاً في طريق يبحث عن تعزيز العمل العربي المشترك على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والاجتماعية والعلمية، فيما قطع «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» شوطاً مهماً على طريق «التوحد» حيث كان المسؤولون في دوله الست يناقشون مسألة «العملة الخليجية الموحدة» بعد أن حققوا إنجازات مهمة في مجالات ومسارات عدة.

&



&

&



ولكن ما جرى بعد انطلاق هذه الثورات، نقل التحدي العربي من تعزيز العمل المشترك من المحيط إلى الخليج إلى الحفاظ على تماسك كل دولة عربية على حدة ومواجهة تحديات التفكك والانهيار، وهي مسألة تمت مناقشتها باستفاضة في مقالات ودراسات تناولت «مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي»، ولذا بات من الضروري أن ننقل النقاش في هذه الآونة إلى نطاق أوسع، أو زاوية تكمل ما تم التطرق إليه سابقاً، لنطرح سؤالاً عريضاً عن مستقبل العمل العربي المشترك في ظل الظروف الحالية.

ويمكن توزيع النقاش على محاور ثلاثة على النحو التالي:

المحور الأول، يجيب عن السؤال التالي: لماذا أخفقت التكتلات الإقليمية العربية، في نماذج «الاتحاد المغاربي»، و«مجلس التعاون العربي»، و«التكامل المصري السوداني»؟ ثم يتم تناول أسباب تآكل العالم العربي من أطرافه قبل الثورات.. حال الصومال والسودان والعراق، وأخيراً سؤال مفاده: هل خرج «النظام الإقليمي العربي» بشكله التقليدي من التاريخ بفعل الثورات العربية، أم يمكن استعادته؟

والمحور الثاني يخص مجلس التعاون الخليجي، باعتباره الرقم الصعب في مسيرة العمل العربي المشترك، حتى الآن، وهنا من الضروري أن يتم توصيف حال «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» قبل انطلاق ما أسمته الدوائر الغربية «الربيع العربي»، ودراسة أثر الثورات، والانتفاضات العربية على تماسك دول الخليج، ثم تأثير التدخلات الخارجية على المصالح الخليجية المشتركة، وأخيراً الإجابة عن سؤال: هل يمكن استعادة ما كان عليه «مجلس التعاون الخليجي»، من توافق وتعزيزه مستقبلاً بعد ما جرى بين دوله الخمس وقطر؟

أما المحور الثالث، فينصبُّ على كيفية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من خلال دراسة حالات الثورات العربية، وسبل مواجهة مخاطر تفكيك الدول وانهيارها، وإمكانية أن تصلح الثقافة ما أفسدته السياسة بشأن لمِّ شمل العرب، وأخيراً كيفية بناء الكتلة العربية الحية (التعاون المصري الخليجي)، وذلك عبر الإجابة عن سؤال: كيف يمكن بناء هذه الكتلة والحفاظ عليها؟ وأخيراً البحث في إبداع طرق غير تقليدية لتجاوز الانقسامات العربية الراهنة.

فقبل أن نجد العراق وسوريا وليبيا واليمن على شفا التفكك في المشهد الراهن، كان العالم العربي يُؤتى من أطرافه، في سير سريع ومخيف نحو سقوط روايته الكبرى التي دارت حول «القومية»، أو «الأمة الواحدة»، التي تتأسس على وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا وديانة الأغلبية الكاسحة بالإسلام.

فالصومال انقسم إلى دولتين، إحداهما لم تنلْ اعترافاً سوى من الجارة إثيوبيا، والأخرى ممزقة ضعيفة ومرشحة لمزيد من التراجع والانهيار. والعراق إن لم يحدث توافق سياسي بين ما فيه من طوائف وأعراق، فقد ينقسم، حتى ولو من الناحية النظرية، إلى ثلاث دول، أو يعيش في دولة واحدة تنتظر الانقسام أو تتجدد ثقافة التفتت والانشطار بين العراقيين، فينسون مع الزمن، أنهم كانوا بلداً واحداً. ولبنان، إن لم تستقر أحواله مرشح هو الآخر للانقسام إلى دولتين أو ثلاث «مسلمة» و«مسيحية» و«درزية»، أو على الأقل ينحدر إلى ضغائن سياسية واجتماعية تمنعه من التقدم، وتجعل كل همِّه لملمة جراحه الداخلية والرضا بالعيش كسيحاً. والسودان إن لم تنجح اتفاقية «نيفاشا» بين الحكومة وما يُسمى «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، ولم تتمكن الخرطوم من حل مشاكل «الفور» في الغرب و«البجة» في الشرق، ومواجهة تداعيات قرار مجلس الأمن رقم 1593 الذي يدعو إلى محاكمة من وصفهم بمرتكبي جرائم حرب في دارفور، مرشح هو أيضاً للتفتت إلى أربع دول. والمغرب يقاوم، بإصرار وعزيمة، ضد النزعة الانفصالية في «الصحراء الغربية»، واستقواء البوليساريو بالخارج، وعدم التوصل إلى حل لهذه المشكلة، بما ينهيها ويجعلها في ذمة التاريخ.

وإذا قلنا إن مشكلة الأمازيغ في الجزائر يتم حلها تدريجياً مع التطور السياسي الديمقراطي للبلاد، وتسوية أوضاع الشيعة في البحرين مع النزعة السياسية الجديدة للنظام الحاكم، والتي تطرح حلاً سياسياً، وليس أمنياً، لهذه المشكلة، تصبح الكتلة العربية السليمة نسبياً، هي مصر ودول مجلس التعاون الخليجي ودول المغرب العربي.

وحتى يواجه العرب مخطط تذويبهم في كيان أوسع، وإنهاء الوجود السياسي لنظامهم الإقليمي حتى ولو في وضع ضعيف، يجب أن تحافظ هذه الكتلة البشرية وذلك الامتداد الجغرافي على تماسكه، وبخاصة مع استمرار العوامل التقليدية المعروفة لهذا التماسك، من لغة وتاريخ وأغلبية كاسحة تدين بالإسلام، فضلاً عن التلاصق المكاني، الذي لا يقطعه سوى نتوء أرضي غريب يُسمى إسرائيل. فإذا بقيت تلك البقعة وفية لـ«الوطن العربي» أو حتى «العالم العربي»، كما يحلو للواقعيين أن يصفوه، فبإمكانها أن تستعيد الكتلة الجغرافية التي يؤتى عليها الآن، والمتمثلة في الأطراف، التي تم تحديدها سلفاً.

ولكن بلوغ هذه الأمنية لا يكون بالكلام، ولا باستمراء أحلام اليقظة، التي طالما خدرت الذهن العربي ونوَّمته عقوداً طويلة، حتى انتهى به الحال إلى أن يصبح وجبة طرية على مائدة اللئام، يريد كل منهم أن يخطف منه أكبر جزء ويلتهمه، طالباً المزيد.

لقد تربت أجيال بأكملها على أن التعاون والتنسيق والتقارب والتفاهم والترابط والتوحد العربي مسألة لا غنى عنها، وفي ظل ما يجري الآن في بعض البلدان العربية، لابد من فتح هذا الملف بكل وضوح وشفافية، وبلا تردد، وأعتقد أن جامعة الدول العربية عليها دور كبير ننتظره على هذا الدرب، وأتصور أن بناء «الكتلة العربية الحية» بات ضرورة، وإلا سيضيع ما تبقى.

&