مادلين أولبرايت

يعاني الشرق الأوسط مذبحة جديدة كل أسبوع. ويشهد العراق حالة من التفسّخ والانهيار، بعد أن عبر الصراع السوري حدوده، وها هي غزة تشتعل تحت لهيب القنابل والصواريخ. ومن الغريب بعد كل هذا الذي يحدث ألا يتبيّن أصحاب القرار السياسي ما الذي ينبغي فعله لمعالجة هذه الأوضاع. وقد تتجلى إحدى عواقب هذه الأحوال في احتمال أن تتحول الكارثة الإنسانية التي يعانيها الشعب السوري إلى قضية منسيّة لا تجد من يهتم بها. وقد يخال للمرء إن هذا التغافل يأتي بسبب تحسن الأوضاع هناك، لكن الحقيقة هي أن تعقيدات المشكلة أصبحت كافية لتقديم الأعذار المقنعة لأصحاب القرار السياسي العالمي بعدم اتخاذ المواقف المناسبة منها. وباتت المأساة المروّعة التي يتعرض لها السوريون وكأنها شيء عادي ومقبول. وخلال الأيام القليلة الماضية، سُجل مقتل 700 سوري، وهو خبر لم يعد يلقى الاهتمام في الصحف ووسائل الإعلام.


وخلال سنوات ثلاث لاندلاع الأزمة السورية، كانت جهود تقديم المعونات الإنسانية، وتقدم العملية السياسية، وكأنهما حبيسان في علبتين منفصلتين. وكان المجتمع الدولي يسجل الفشل تلو الآخر على الصعيدين معاً. ولم يتم تمويل مشاريع الإغاثة التي طالبت بها الأمم المتحدة، وفشلت كل المحادثات السياسية التي نظمتها الأمم المتحدة لحل المشكلة، ومُنعت قوافل المساعدات من بلوغ مقاصدها، وكان العالم يتجاهل كل مشروعات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن للتخفيف من حجم المأساة.

أما الآن، فقد ظهر على الساحة تطوران جديدان لهذه القضية؛ أحدهما ذو طابع إنساني، والثاني ذو طابع سياسي، من شأنهما أن يعيدا الأمل في تحقيق انفراج جديد.

يتعلق التطور الأول بقرار مجلس الأمن الذي يفوّض مسؤولي الأمم المتحدة بإرسال المساعدات الإنسانية للسوريين عبر الحدود المشتركة مع كل من تركيا والأردن والعراق، إلى المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات المعارضة. ويتعلق الثاني بقرار آخر صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يقضي بتعيين مبعوث جديد للإشراف على المفاوضات السياسية لإنهاء الأزمة، هو «ستافان دي ميستورا»، عرّاب الكثير من الأزمات السياسية، وبحيث يسعى لإعادة إحياء المفاوضات المتعثرة بين النظام السوري ومعارضيه. وقد أثبت دي ميستورا كفاءة وفهماً كبيرين عند توسطه في العديد من الصراعات التي شهدها العالم من البلقان حتى العراق، وأظهر تفوقاً في تحقيق نوع من التوازن والانسجام بين المقاربات الإنسانية والسياسية.

وتكمن أهمية هذا التطور في أن مشروع القرار الإنساني كان مترافقاً مع قرار تعيين دي ميستورا. وكثيراً ما كان يُنظر إلى الأوضاع الإنسانية في الصراعات التي يشهدها العالم باعتبارها تمثل خطاً مختلفاً عن المسارات السياسية. لكن، في حقيقة الأمر، يُعدّ التقدم الذي يتحقق على الجبهة الإنسانية خطوة أولى لتحقيق تقدم موازٍ على الصعيد السياسي.

وقد سبق أن حدث شيء مثل هذا من قبل. فقد نجحت عملية «لايفلاين» في السودان، والتي تم إطلاقها عام 1989، في الحصول على موافقة متمردي الجنوب وحكومة الخرطوم على السماح بالمرور الآمن للمساعدات الإنسانية على طول ما يسمى «الأروقة الهادئة» corridors of tranquillity. وخلال الأيام الأولى للعملية، تبيّن للمسؤولين الأمميين أنها نجحت في خلق جوّ من الوئام يشجّع على إعادة ملفات مفاوضات السلام المتعثرة إلى الطاولة. وقد حدث شيء مماثل في أنجولا عام 1990، عندما نجح «برنامج المعونات الإنسانية الخاصة» للمدنيين الأنغوليين الذي رعته الأمم المتحدة، في إعادة فتح خطوط التفاوض بين الحكومة والمعارضة المسلحة، وكان بمثابة الاختبار الناجح لإعادة الثقة بين الطرفين، ومهّد لعقد صفقات سياسية ناجحة بينهما.

وحتى تحظى حملة المساعدات الإنسانية للسوريين المحاصرين بالأولوية المطلقة التي تحتاجها، فإننا نقترح على حكومات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب بقية الدول ذات العلاقة بالأزمة السورية، أن تعمل جنباً إلى جنب على تفعيل وتجديد مساهمتها في تقديم هذه المساعدات، وأن تضمن وصولها إلى من هم بأمس الحاجة إليها.

لم يعد هناك وقت يمكن تضييعه؛ فقد أدى الصراع في سوريا إلى نزوح 11 مليون سوري من مواقع سكنهم الأصلية، وباتوا بحاجة ماسة إلى المساعدة، وإلى مقتل 175 ألف مواطن، وتهجير أكثر من ثلاثة ملايين إلى الدول المجاورة، فيما يقبع أكثر من ثلاثة أرباع المليون سوري في أرياف دمشق وحلب تحت الحصار. ولو تحدثنا عن هذا السيناريو المرعب الذي نشهده الآن في سوريا قبل ثلاث سنوات فحسب، لما كان أكثر السياسيين احتكاماً إلى العقل والمنطق ليصدق بأن المجتمع الدولي يمكنه أن يسمح بحدوث مثل هذه المأساة، أو أن يقف منها موقف المتفرج، فيما نحن نعيش حضارة القرن الحادي والعشرين.

وبعد عقد من التدخل الأميركي في شؤون وصراعات أفغانستان والعراق، ها نحن نرى الآن بأم أعيننا الثمن الباهظ الذي ندفعه ويدفعه السوريون نتيجة عدم تدخلنا في مأساتهم. ثم إن هذا الثمن ما زال يرتفع يوماً عن يوم. كما أن الأيام المتوالية لم تعد تأتي إلا بالخيارات الأصعب. وبات نجاحنا في تحقيق الأهداف المخططة على جبهة العمل الإنساني، يمثل الحد الأدنى من الجهد الذي يتحتم علينا بذله من أجل التخفيف من أسوأ معاناة يعانيها شعب من شعوب الأرض، والتي بلغت من الخطورة مستوى غير مسبوق. ويكون من الأهمية بمكان أن تعمل تلك المساعدات على تهيئة الأجواء لتنظيم مفاوضات سياسية، يمكنها أن تضع حداً نهائياً لهذا الصراع الدموي. ويمكن القول بكلمة واحدة إننا أصبحنا الآن أمام فرصة لا يجوز التفريط بها أبداً.
&