‏ حازم الرفاعي

&

&

&

تبقى غزة - بتعداد سكانها الذى يقارب الإثنين مليونى نسمة - عقبة أمام أى مشروع لترتيب السلام فى المنطقة.

&


تبقى تلك الكتلة السكانية الضخمة التى تحيا فى منطقة محدودة من الأرض، والمغروزة فى خاصر إسرائيل، والتى لا تبعد عن أكثر مناطقها حساسية سوى عشرات الكيلومترات، تهديداً استراتيجياً دائماً وصريحاً. ويكتسب هذا التهديد بعداً أشد وضوحاً بعد المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية الحالية التى أظهرت تداعيات استخدام الأسلحة المتطورة من ذلك الموقع. والعقل الأمريكى لا يرى فى غزة إلا تهديداً سكانياً ديموجرافياً، ولا يرى فى أى رابط بين غزة والجسد الفلسطينى فى الضفة إلا تمزيقاً فى أوصال جسد الدولة العبرية، بما يحمله من مخاطر أمنية وتنموية إلى ما غير ذلك.

&

ويخيم تاريخ أوروبا وتجاربها على العقل الإسرائيلى والأمريكى ويصنع مرجعياته السياسية الفكرية والعنصرية التى لا فكاك منها. ومن تلك المرجعيات المرجعية الاستعمارية فى مشاريع (نقل السكان). فمشاريع نقل السكان تلك ليست جديدة فى العالم بل هى جزء أصيل من تاريخ أوروبا. ولعل من أبرز تلك المشاريع مشروع نقل السكان فى جنوب أفريقيا وأثناء خلق دولة باكستان، وما صاحبهما من مشاهد وتداعيات مأساوية. والدولة العبرية ذاتها استندت بالأساس إلى (تهجير الفلسطينيين) دون أى تصور حقيقى عن أى أوطان بديلة لهم. وصاحبت مسيرة الفكر الإسرائيلى الأمريكى الكثير من المشاريع الفاشلة فى هذا المضمار، مشاريع تكسرت على الإرادة العربية كمشروع (نقل السكان) من الضفة الغربية إلى شرق الأردن. ذاك المشروع الذى كان جزءاً من مشاريع اليمين الإسرائيلي، والذى يمثل حجر الزاوية لسياسة الاستيطان حتى اليوم فى الضفة الغربية. وتاريخ أوروبا المخيم على العقلية السياسية الأمريكية والصهيونية يفرض علينا لذلك أخذ موضوع فتح المعابر بجدية والنظر إلى مخاطره، ليس فقط على القضية الفلسطينية بل على السيادة المصرية ذاتها.

&

لقد ذهبت الإدارات الأمريكية إلى مدى بعيد فى إعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يلائم مصالحها ومصالح إسرائيل منذ غزو العراق 2003. ذلك المشروع السياسى الكبير لإعادة رسم خرائط الدول المناوئة لإسرائيل تجاوز رسم الخرائط للفتك بذات النسيج الاجتماعى والتاريخى فى تلك الدول. ذاك المشروع الذى تطلب جرأة وخيالاً سياسياً مدمراً ودموياً ستكون نتيجته خريطة أكثر أمناً للدولة العبرية. ولقد تم المشروع ويتم بالاستناد إلى كل ما فى جعبة الأكاديميين والمستشرقين من تصورات عنصرية عرقية عن تاريخ الشرق وطوائفه، يتم تنفيذها فى ظل غطاء من الأكاذيب عن الديمقراطية، يروج لها عملاء مباشرين أو غير مباشرين. ولم يتبق الكثير أمام المشروع الأمريكى فى نظر صانعيه إلا المفاجأة المصرية، وغزة، وقضيتها السكانية.

&

وتعتبر الإدارة الأمريكية أن إحلال سلام ما فى الشرق الاوسط مبنى على موضوع الدولتين ضرورة حياة أو موت بالنسبة للدولة الإسرائيلية، وأن بقاء الوضع الراهن سيطيح بالدولة العبرية أمام فيضان الفلسطينيين السكانى الديموجرافي. وبقاء هذا الوضع سيأخذ الدولة العبرية إلى آفاق أخطر مما جابهته جنوب أفريقيا العنصرية. ولذلك فإن الخلخلة السكانية والجغرافية لتلك الكتلة السكانية الهائلة فى غزة هى هدف استراتيجى متوسط المدى لإسرائيل والولايات المتحدة. ومن هنا يأتى الدعم الكامل لكيان حماس السياسى فى غزة من قطر وتركيا مع تفاهمات جزئية مع الولايات المتحدة. والكيان السياسى المتباعد عن بقية الجسد الفلسطينى هو انعكاس للرؤية الاسرائيلية الأمريكية لتفرد وضع غزة الديموجرافى وانفصال أفق الحل لمشكلتها عن بقية الجسد الفلسطيني.

&

وقد صار موضوع غزة وأى مجابهة فيها مرتبطاً ارتباطاً إعلامياً مباشراً بموضوع معبر رفح. وهناك دأب دائم على إثارة موضوع معبر رفح بشكل متواصل وتحويله إلى قضية سياسية، مع إصرار على أن يترسخ فى الضمير العام العالمى والعربى والإسلامي، بل والمصرى أيضاً، ان موضوع معبر رفح هو قضية إنسانية عاجلة وأن الموقف المصرى هو تعنت لا مبرر له وأنه فى حقيقته معادٍ لنضال الشعب الفلسطيني.

&

والهدف السياسى المباشر من هذا الإصرار هو صنع واغتنام أى فرصة تسنح لنزوح السكان من غزة إلى سيناء. وليس التاريخ ببعيد، فمع انهيار الحكم فى ألمانيا الشرقية واجه حرس بوابات الحدود ببرلين فيضانا بشرياً لم يمكن إيقافه. ويتساءل المرء ترى لو خلقت تلك الأزمة وواجه حرس الحدود المصريون مئات الألوف العابرين للحدود مع مصر: ترى ماذا سيفعل المصريون؟ ترى هل سيطلق حرس الحدود المصريون النار على أشقائهم الفلسطينيين؟ ترى ماذا سيحدث بعد النزوح؟ ماذا سيحدث لربع أو نصف مليون فلسطينى فى العريش؟ هل ستدير مصر حياتهم؟ أم أن الواقع سيفرض تعاملاً وتعاوناً مصرياً إسرائيلياً أمريكياً فى إدارة أراضٍ مصرية تحولت إلى جيب فلسطينى على الأراضى المصرية.

&

هل ستفرض الأحداث تحول هذا الجيب إلى قاعدة شبه أجنبية تديرها الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد تميز تاريخ الحركة الوطنية المصرية ذاته تميزاً كاملاً عن كل بلدان العالم الثالث مطالباً بالجلاء وليس الاستقلال فقط. وكان شعار (الجلاء بالدماء) شعاراً مصرياً خالصاً متميزاً. وها نحن نرى تحدياً جديداً له، بشعارات وأبعاد أخلاقية، وغطاء يبدو قومياً ولكنه فى الحقيقة لا يمثل إلا هدفاً إسرائيلياً أمريكياً على حساب الشعب الفلسطيني. إن الواجب يفرض على مصر استكشاف أبعاد المشروع الأمريكى لنقل السكان إلى سيناء والعريش، وماذا يعنون به، وما هى التزاماتهم تجاهه، ومن سيدير تلك المنطقة. أقول «استكشاف» لا «موافقة» أو «توافق»، ففى قلب ذلك المشروع عودة إلى التدخل الأجنبى الأمريكى والاسرائيلى المباشر فى إدارة الأراضى المصرية، وفتح الطريق لعودة القواعد الأجنبية.
&