عصام نعمان
&
أوحى ياسر عبد ربه، أمين سر منظمة التحرير، بتصريحاته الملتبسة أن القيادة الفلسطينية بجميع أطرافها وأطيافها وافقت أخيراً على هدنة مديدة، وأن وفداً فلسطينياً يمثل جميع الفصائل، بما فيها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، في طريقه إلى القاهرة، وأن الجميع وافقوا على المبادرة المصرية .
الناطق باسم "حماس" سامي أبو زهري نفى ما أوحى به عبد ربه، وقال: "أن نعلن تهدئة من طرف واحد بينما يقتل الاحتلال أطفالنا خلالها، فهذا لن يكون . إن المقاومة هي التي تعبّر عن مواقفها وليس عبد ربه" . أوساط محمود عباس في رام الله والقاهرة تجاهلت نفي أبو زهري وتحدثت مجدداً عن "أنه تمّ التوافق مع رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل والأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي رمضان عبدالله مشلح على تهدئة لمدة 24 ساعة، قابلة للتمديد ثلاثة أيام أخرى" .
إزاء هذه البلبلة، اضطر القائد العام لكتائب القسّام أبو خالد محمد ضيف، في خطوة نادرة، إلى إصدار بيان صارم رفض فيه التهدئة مع استمرار العدوان على قطاع غزة، مؤكداً استمرار المقاومة حتى رفع الحصار وتوفير الأمان للشعب في القطاع، وأن المقاومة لن تقبل بالحلول الوسط على حساب حرية شعبها وكرامته .


بيان قائد كتائب القسام كشف وجود تباين في الرؤية والرأي بين قيادة المقاومة في غزة والقيادة السياسية في الخارج . ولعله كشف، بل أكّد، أن القرار في غزة هو للمقاومة وحدها، قرار المواجهة كما قرار التهدئة .
في "إسرائيل"، ثمة بلبلة من طراز آخر . فالقيادة السياسية منقسمة إزاء ما يجب عمله بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من العدوان لم تستطع حكومة نتنياهو خلالها تحقيق أهدافها . فلا هي نجحت في قتل أو إصابة أي من قادة المقاومة الفلسطينية، ولا هي استطاعت تدمير شبكة الأنفاق داخل القطاع أو تلك الممتدة إلى مستعمرات على مقربة من غلافه، ولا هي كسرت إرادة المقاومة لحملها على وقف القتال وفق شروط "تل أبيب" . إلى ذلك، سرّبت قيادة الجيش "الإسرائيلي" خبراً ينطوي على إحراج، إن لم يكن على إنذار، مفاده أن الجيش أنجز مهمته وعلى القيادة السياسية أن تقرر ما إذا كان مطلوباً منه الآن توسيع هجومه إلى داخل القطاع أو الانسحاب .
التوغل داخل القطاع صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً . فالتكلفة البشرية ستكون عالية جداً والنتائج المتوخاة محدودة للغاية . لذلك قرر نتنياهو وفريقه اعتماد "الخطة ب" التي تتضمن، على ما يبدو، ثلاث خطوات:
- تركيز القصف البري والجوي والبحري على المدنيين الفلسطنيين في مختلف أمكنة تواجدهم، وعلى المرافق الحيوية كمعامل توليد الكهرباء والمشافي والمدارس المكتظة بالأطفال والنساء وتدمير أحياء برمتها على رؤوس سكانها بغية الضغط على قيادة المقاومة لحملها على التماس التهدئة بلا شروط .
- الإيحاء لمصر بأنها على استعداد لقبول تعديلات على مبادرتها لجهة فتح المعابر كلها، وتوسيع منطقة الصيد البحري، وتسهيل مرور المواد اللازمة لإعادة البناء والإعمار، في محاولة لإقناع مصر وغيرها من دول المنطقة بممارسة مزيد من الضغط على المقاومة للموافقة على وقف القتال .


- السعي، بالتعاون مع الولايات المتحدة، على تشكيل آلية دولية عبر مجلس الأمن مهمتها العمل على تجريد قطاع غزة من السلاح بمراقبة كل ما يدخل إليه من مواد كي لا يتم استخدامها في عمليات "إرهابية" .
ليس في الأفق ما يشير إلى أن قيادة المقاومة في غزة بصدد الموافقة على تهدئة لا تكون مقرونة بتحقيق مكاسب محسوسة بعد الثمن البشري والمادي الباهظ الذي دفعه الشعب الفلسطيني في القطاع . ومع ذلك، وعلى افتراض أن المقاومة وافقت على وقف إطلاق النار من خلاله تهدئة أو هدنة قصيرة أو طويلة، فإنها ستكون الرابحة عند التدقيق في ميزان الخسائر والأرباح على النحو الآتي:
أولاً، احتفظت بقيادتها العسكرية والسياسية الموجودة في القطاع سليمة وفاعلة .
ثانياً، احتفظت ببنيتها العسكرية، ولاسيما تلك الكائنة تحت الأرض من أنفاق وتجهيزات ومصانع تجميع وتصنيع وترميم للأسلحة والصواريخ، سليمة وعاملة .
ثالثاً، اكتسبت خبرة قتالية ثمينة في وجه العدو "الإسرائيلي" من خلال استخدام أسلحة ومناهج قتالية نوعية مكّنتها من نقل الحرب إلى عمق العدو وعلى مدى فلسطين المحتلة كلها، كما مكّنتها من كشف ثغرات خططه العسكرية وفشل أسلحته المتقدمة ولا سيما "القبة الحديدية"، وشلّت مرافقه الحيوية وأرعبت سكان مستعمراته أياماً وأسابيع .
رابعاً، حرّكت الشعب الفلسطيني في الضفة والأراضي المحتلة العام 1948 والشتات وحققت وحدته الوطنية على الأرض وفي وجه العدو، وانجزت تعبئة شعبية لافتة أسهمت بدورها في تعزيز تقارب الأوساط القيادية الفلسطينية .
خامساً، أعادت قضية فلسطين إلى صدارة القضايا الإقليمية والدولية الأمر الذي سينقلها إلى مستويات أعلى من الاهتمام الإقليمي والدولي ومن النجاحات على الصعيدين السياسي والاقتصادي الاجتماعي، وربما إلى إسقاط اتفاق أوسلو وملاحقه .


الحرب على قطاع غزة ما زالت ناشطة، ولعلها ستتواصل بشكل أو بآخر قبل أن يقرر العدو "الإسرائيلي" وقفها تحت وطأة ثلاثة عوامل: استمرار المقاومة في مواجهته ونجاحها في تهديد أمن مستعمراته (ولا سيما تلك المحيطة بالقطاع من الشمال والشرق) وإلحاق الخسائر بها، وتزايد سخط الرأي العام العالمي عليه نتيجةَ المجازر التي يرتكبها بحق المدنيين عموماً والنساء والأطفال خصوصاً، وخشية أوساط قيادية في دول الغرب الكبرى من أن يؤدي تدمير قطاع غزة إلى صعود تنظيم "داعش" كخيار بديل للفلسطينيين (وللعرب) من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الأكثر اعتدالاً .
الخلاصة: المقاومة عادت إلى صدارة الأحداث ومعها قضية فلسطين .

&

&