خالد القشطيني

وهذه صفحة منسية تتعلق بامرأة. ولم لا؟ فالمرأة هي غالبا الشخصية المنسية في فصول التاريخ. وهي هنا شقيقة الملك ريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترا الذي قاد أقوى حملة للاستيلاء على القدس في القرن الحادي عشر. ونحن نتذكر ريتشارد قلب الأسد ونتذكر غريمه صلاح الدين الأيوبي، ولكن قلما نعرف شيئا عن هذه المرأة التي وقع مصير المنطقة بيدها، بل وتوقف على كلمة صغيرة تقولها.


بعد نجاحه في الاستيلاء على ميناء عكا، سار الملك ريتشارد بجيشه جنوبا نحو مدينة القدس. ولكنه واجه مقاومة مضنية من جيوش المسلمين. استمر القتال يوما بعد يوم، ويوما بعد يوم تساقط مئات القتلى من الطرفين إلى الحد الذي أوحى للملك أن يتروى في الأمر. خطر له ما لا يخطر لغيره من القادة أن أرواح الناس أولى من الحجر والحيطان. فوضع مخططا للسلام وفاتح السلطان صلاح الدين الأيوبي بفكرته. وكان الزواج واستعمال المرأة كسلعة أسلوبا متبعا في الدبلوماسية والمصالحة بين الأمم والأقوام. عرض عليه أن يزوج شقيقته للملك العادل، شقيق صلاح الدين. وتقسم فلسطين بحيث يصبح العادل حاكما على الجنوب بما فيه مدينة القدس ويحتفظ الصليبيون بعكا والشمال. والفكرة، كما أرى، هي أن هذه الأميرة الإنجليزية ستفلح بمكرها أن تحكم زوجها العادل، وتصبح هي الحاكم الفعلي للقدس. وعند موت زوجها ينتقل الحكم لوريث أعمامه مسلمون وأخواله مسيحيون.


استهوت الفكرة صلاح الدين حقنا للدماء، وتبودلت رسائل كثيرة بينهما في الموضوع. وأخذت الأمور مسارها لولا أن الأميرة شقيقة ريتشارد قلب الأسد برمت شفتيها وقالت «كلا! لا أتزوج بمسلم كردي!»


وخربت المشروع. ورغم كل ما اشتهر به قلب الأسد من قوة وبأس فلم يقو على رد كلمة امرأة وإرغامها على هذا الزواج. وهذه حلقة يجب أن نضيفها لسجل حركة تحرر المرأة وتمسكها بحقوق الإنسان.


ولكنني أجد في الحكاية أيضا حلقة أخرى من نوع آخر؛ سجل العنصرية الغربية. فلو أن الملك ريتشارد عرض عليها الزواج بشقيق قيصر روسيا أو شقيق إمبراطور النمسا، بل قل بخمار سويسري فما أراها ترفض هذه الزيجة. ولكنها وجدت الزواج برجل كردي مسلم شيئا تعافه أميرة أوروبية بيضاء شقراء.


ولكن هذه الأميرة الإنجليزية مزقت بكلمتها البسيطة «لا» فرصة نادرة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط والعلاقات بين أوروبا المسيحية والشرق الإسلامي. فوقوع الديار المقدسة في حكم سلاطين أعمامهم مسلمون من كردستان وأخوالهم نصارى من أهل لندن قد يفتح بابا واسعا لحوار الأديان واستتباب السلام. ولكن هذه الطعنة التي تلقتها فلسطين من شخصية إنجليزية لم تكن الأولى من نوعها. فبعد بضعة قرون ظهر إنجليزي آخر من قومها وأعطى البلاد برمتها للكونت روتشيلد برسالة بسيطة من عشرة أسطر.