سمير عطا الله

عندما عرفت القاهرة عام 1964 كانت لا تزال غير مختنقة بالناس والزمامير. وكنت إذا أطللت من نافذة الفندق تبيّنت فيها بوضوح معالم باريس التي بُنيت على مثالها: واحدة يعبرها السين وواحدة يخطّها أكبر أنهر الأرض، أو أعظمها. لكن القاهرة في ذلك الوقت كانت عاصمة العالم الثالث وصوت الحرب على الاستعمار. وكانت المقاهي مليئة بوجوه اللاجئين السياسيين العرب، لكنها كانت أيضا مكتظَّة بالوجوه الأفريقية والآسيوية. وكانت عناوين «الأهرام» عن الكونغو وغانا والهند وشو آن لاي. وفيما كانت بيروت تمضي في طريقها صورة عن باريس والغرب والرأسمالية ودور السينما، كانت القاهرة ورشة من الخطب الاشتراكية والثورية. لكن هذا السور المزداد ارتفاعا لم يستطع أن يطفئ أو يخبئ أنوار مصر الفن والأدب.


التأميم الشامل وصل إلى أعتاب دارة «الست» في شارع أبو الفدا - حي الزمالك، وتوقف خجلا وإعجابا. ولم يعد في إمكان الأغنياء والوجهاء السفر بما يُسمح لهم من ثلاثين جنيها (تلاتين لحلوح بحالها)، لكن محمد عبد الوهاب وفاتن حمامة وفريد شوقي ووحش الشاشة الآخر محمود المليجي وفريد الأطرش (الأستاذ وحيد) وسواهم، كانوا يسافرون إلى حيث يشاؤون. كان عبد الناصر يُدرك أنهم سلاح مصر الأكثر مضاء. سلاح القلوب العربية وسحرتها. لقد جعلوا مصر في بيت كل عربي.


وعندما عم التلفزيون، صارت بيوت العرب في العراق أو الكويت أو سوريا تضحك كل يوم جمعة للمسرح المصري ومحمد عوض وبديع خيري وفؤاد المهندس، وصار في إمكان الأبناء أن يضحكوا مع المذهل الذي أضحك آباءهم في الماضي، العراقي نجيب الريحاني، الذي لم يخلف لونه أحد. لم يخلع ربطة العنق، ولم يخفف بوصة من أناقته، ولم يأت مرة بحركة تهريجية. لكنه كان يهز المسرح أو يزهزه الشاشة.


إذن، كانت القاهرة عاصمة كل شيء. ومن كان شابا فقد كانت عاصمة «الهوى والشباب والأمل المنشود» على ما كتب الأخطل الصغير وغنّى عبد الوهاب. كان عبقري اليونان المعاصر نيكوس كازانتزاكيس يقول إن الإنجليز اخترعوا ثلاث ظواهر: شكسبير، والجنتلمان، والريف. عبد الوهاب كان الجنتلمان الكامل، أناقة وأدبا ولماحة وثقافة وسرعة خاطر. ولست أعرف رأي النقاد، لكن الرجل بنى حداثة الغناء والموسيقى العربية، وقرَّب إلى الأسماع الشعر الفصيح مغنّى بلا رتابة، ونقل الغناء المصري من أوتار الأوَّلين المحدودة إلى دنيا الفرقة الموسيقية الكبرى. وسوف يحقق شيئا أهم هذا العام، 1964: سوف يُقنع أم كلثوم بأن تغني للغيتار، وليس فقط لكمنجة الحفناوي، ذلك الصنم النحيل الذي كان دائما يبدو بنظارتيه خلفها وهي تهتف ساخرة «أنساك.. دا كلام؟!».
إلى اللقاء..